ثمة نوعٌ من الانتظار لا يُحسب بالدقائق أو الساعات، بل يُحسب بنزيف الروح؛ ذلك الانتظار الذي نقف فيه على رصيف الوهم، نترقب قطاراً نعلم يقيناً أنه مرَّ منذ زمن، أو أنه لم يكن موجوداً أصلاً، ومع ذلك.. نظل واقفين.
هو يعلمُ أنها ستتأخر. التأخيرُ عندها ليس ظرفاً، بل هو استراتيجية، هو رسالةٌ ضمنيةٌ مفادها:
"وقتي أثمنُ من انتظارك، وحضوري مكافأةٌ يجب أن تدفعَ ثمنها قلقاً".
ورغم علمه، كان يختلقُ الأعذارَ ببراعةِ محامٍ يدافعُ عن قاتلٍ قُبضَ عليه متلبساً. كان يقول لنفسه: "ربما الطريق، ربما العمل، ربما..."، لكن "الربما" هذه كانت السوطَ الذي يجلدُ به وعيه كي لا يستيقظ.
تذكرَ كيف بدأ كل شيء. لم تكن البدايةُ انزلاقاً مفاجئاً، بل كانت غرقاً بطيئاً ومدروساً في مستنقعٍ ظنهُ نهراً عذباً. في البدء، رسمت له صورةً للمثاليةِ المفرطة، كانت مرآةً تعكسُ ما يريدُ هو أن يراه، لا حقيقتَها هي. وهو، بقلبهِ الذي كان متعطشاً للاحتواء، سمحَ لهذا الوهمِ أن يتمدد، أن يحتلَّ مساحاتِ المنطقِ في عقله.
الحقيقةُ التي كان يتهربُ منها طويلاً هي أنهُ لم يقع في حبها هي، بل وقعَ في حبِ الصورة التي نحتها خيالُه عنها. كان هو النحّات، وهي الحجر. صنعَ منها تمثالاً من نور، وعبدَ التمثال، وحين كان الحجرُ يجرحُ يده ببرودته وقسوته، كان يلومُ يده لا الحجر.
وصلت أخيراً.
دخلت بخطواتٍ واثقة، لا يشوبها أي ارتباكٍ للاعتذار. جلست أمامه، وبدلاً من أن تنظرَ في عينيه لتقرأ فيهما عتابَ المحب، أخرجت هاتفها، ثم مرآتها الصغيرة. كانت حركاتها مدروسة، مسرحية، تدورُ في فلكِ ذاتها. عدّلت خصلةَ شعرٍ شاردة، وتأكدت من أحمرِ الشفاه، وكأن الكون كله يختزلُ في حدودِ وجهها.
قال بصوتٍ هادئ، صوتٍ يحاولُ أن يكبتَ بركاناً: "لقد انتظرتُ طويلاً."
ردت ببرودٍ، وهي لا تزالُ تتأملُ انعكاسها: "أنتَ تعلمُ كم أنا مشغولة، والجميعُ يطلبُ وقتي. يجب أن تقدّر أنني استطعتُ المجيء أصلاً."
هنا، في هذه الجملةِ العابرة، تجلّت المأساةُ كاملة. "الأنا" المتضخمة التي تبتلعُ كلَّ شيء. هي لا ترى فيه شريكاً، بل تراهُ جمهوراً. تراهُ مرآةً إضافيةً تقتاتُ على إعجابها بنفسها من خلالِ نظراته. العلاقةُ بالنسبةِ لها ليست أخذاً وعطاءً، بل هي استنزافٌ لطرفٍ يظلُّ يضخُّ الحبَّ والاهتمامَ في بئرٍ لا قاع لها.
عاد بذاكرته إلى الوراء، يقلّبُ صفحاتِ الخيبات. تذكرَ تلك المرات التي كان يمرضُ فيها، فتتصلُ به لا لتطمئن، بل لتشتكي من مللِ يومها. تذكرَ كيف كان يطوي أحزانه ويخفيها كي لا يعكّر مزاجها الرقيق، بينما كانت هي تنفجرُ غضباً لأتفهِ الأسباب، وتطالبهُ بأن يتحمّلَ تقلباتها كواجبٍ مقدس.
كانت المعادلةُ مختلةً بشكلٍ مرعب. هو يعطي "الكل"، وهي تعطي "الفتات". وكان هو، بدافعِ ذلك الوهم اللعين، يرى في الفتاتِ وليمة. إذا ابتسمت له مرةً بعد عشرِ تكشيرات، كان يعتبرُ الابتسامةَ دليلاً على حبٍ عميقٍ مدفون، ويقول لنفسه:
"هي تحبني، لكنها لا تجيدُ التعبير". يا لها من كذبة! فالنرجسيةُ تجيدُ التعبيرَ جداً، لكن عن حبِ الذات فقط.
نظرَ إليها وهي تتحدثُ الآن عن موقفٍ حدثَ معها في العمل، تسردُ التفاصيلَ بحيثُ تبدو هي البطلة، والضحية، والمحور، والكونَ بأكمله. لم تسألهُ كيف حالك؟
لم تلاحظ الشحوبَ الذي يكسو وجهه، ولا الرجفةَ الخفيفةَ في يديه. هي لا تراه. هي ترى الظل الذي يتبعها، والظلُّ لا يُسألُ عن أحواله.
في تلك اللحظة، حدثَ شيءٌ غريبٌ في داخله. كأنَّ غشاوةً سميكةً قد انقشعت فجأة.
بدأ يراقبها بعينٍ مجردةٍ من فلاتر الحب والأمل. رأى الملامحَ كما هي؛ قاسية، جامدة، خاليةً من الدفء الإنساني الحقيقي. رأى الأنانيةَ وهي تتحركُ في عضلاتِ وجهها. رأى كيف تقاطعُ حديثه لتعودَ للحديثِ عن نفسها.
أدرك الحقيقةَ المرّة: هو المسؤول.
نعم، هو المسؤولُ الأول. لأنه هو من سمحَ للوهمِ أن يسيطرَ عليه. هو من قبلَ بشروطِ اللعبةِ المجحفة. هو من ظلَّ ينتظرُ من السراب أن يتحولَ إلى ماء. الخطأُ ليس في السرابِ لأنه يخدع، بل في الظمآنِ الذي يصرُّ على اللحاقِ به رغمَ علمهِ باستحالةِ الوصول.
كانت فكرةُ التغيير هي المخدرُ الذي يتعاطاه يومياً. "ستتغيرُ مع الوقت"، حبّي سيشفي جراحها النرجسية، صبري سيعلّمها العطاء.
يا لسذاجةِ العاشقين! الأشخاصُ الذين جُبلوا على حبِ ذواتهم بشكلٍ مرضي لا يتغيرون بالحب، بل يزدادون طغياناً كلما مُنحوا المزيدَ من التنازلات. إنهم يعتبرون التسامحَ ضعفاً، والعطاءَ حقاً مكتسباً.
شعرَ بغثيانٍ ليس جسدياً، بل روحياً. غثيانٌ من نفسه التي أهانها طويلاً على عتباتِ شخصٍ لا يملكُ القدرةَ على الشعورِ بالآخر.
قالت له فجأة، قاطعةً حبلَ أفكاره:
"لماذا أنت صامت؟ ألا يعجبك حديثي؟ أنت دائماً هكذا، كئيب وتمتص طاقتي."
هنا، اكتملت الدائرة. الجلادُ يلومُ الضحيةَ على نزيفها.بدلاً من أن يعتذرَ كما جرت العادة، أو يحاولَ تلطيفَ الجو، نظرَ إليها بعمق، وكأنه يودعُ الوهمَ الذي سكنهُ لسنوات.
قال بصوتٍ هادئٍ جداً، هدوء ما بعد العاصفة: "أنا صامتٌ لأنني أستمعُ إلى صوتٍ في داخلي، صوتٍ تجاهلتهُ طويلاً."
عقدت حاجبيها باستغراب، فهي لم تعتد منه هذه النبرة. قالت بتعالي: "أي صوت؟ وعن أي ترهات تتحدث؟"
أجابها وهو يجمعُ أشياءه من على الطاولة: "صوتُ الكرامة. الصوتُ الذي يخبرني أنني كنتُ أحرثُ في البحر، وأنتظرُ الحصاد."
صمتت. لم يكن صمتاً نابعاً من الفهم، بل من الصدمة. كيف يجرؤ هذا الظل أن يتكلم؟ كيف يتمردُ المصدر الذي يمدها بالطاقة؟
تابعَ هو، والكلماتُ تخرجُ منهُ سلسة، متماسكة، كأنها كانت مكتومةً في روحهِ منذ الأزل وتنتظرُ هذه اللحظةَ لتخرج:
"المشكلةُ ليست فيكِ.. المشكلةُ فيَّ أنا. أنا الذي رسمتُ لكِ صورةً ملائكيةً وصدّقتها. أنا الذي بررتُ قسوتكِ بأنها جروحٌ قديمة، وفسرتُ أنانيتكِ بأنها ثقة، وترجمتُ صمتكِ بأنه عمق. كنتُ أعيشُ في مسرحيةٍ من تأليفي وإخراجي، وأنتِ كنتِ مجردَ ممثلةٍ تؤدي دورها بطبيعتها.. طبيعةِ الأخذِ بلا عطاء."
حاولت أن تقاطعه، أن تصرخ، أن تستخدمَ أسلحتها المعتادة في قلبِ الطاولة وإشعالِ نيرانِ الذنبِ في داخله، لكنه رفعَ يدهُ بحزمٍ هادئٍ أخرسها.
لا تحاولي. لقد انتهى الرصيد. رصيدُ الأمل، رصيدُ الأعذار، ورصيدُ الوهم. نحنُ لا ننتظرُ من النارِ أن تصبحَ برداً وسلاماً إلا في المعجزات، وعصرُ المعجزاتِ قد ولى. علاقتنا كانت داءً اعتقدتُ أنه دواء. كنتُ أنتظرُ منكِ أن تتعدلي، أن تشعري، أن تري شيئاً آخر غير نفسك.. لكنني أدركتُ الآن أن انتظارَ تغييرِ الطباعِ المتجذرة هو نوعٌ من الانتحارِ البطيء.
وقف. شعرت هي لأولِ مرةٍ بالخطر. ليس خطرَ الفقدِ العاطفي، فالنرجسي لا يحب، بل خطرَ فقدانِ السيطرة، وخطرَ فقدانِ المصدر. تغيرت ملامحها، حاولت ارتداءَ قناعِ الضحية بسرعة، لمعت في عينيها دموعٌ زائفة، تلك الدموعُ التي طالما أسرت قلبهُ سابقاً.
قالت بصوتٍ متهدجٍ مصطنع: "هل ستتركني؟ بعد كل ما كان بيننا؟ أنت أناني! كيف تفعل بي هذا؟"
ابتسم. ابتسامةً حزينةً لكنها حقيقية. ابتسامةَ من نجا من الغرقِ في اللحظةِ الأخيرة.
"أناني؟" كرر الكلمةَ متذوقاً مرارتها. "ربما. اليوم سأكونُ أنانياً لأولِ مرة. سأختارُ نفسي. سأختارُ أن أنقذَ ما تبقى من روحي قبل أن تتحولَ إلى رمادٍ في محرقتك. الوداع ليس عقاباً لكِ، الوداع هو نجاةٌ لي."
وضعَ ثمنَ القهوةِ التي لم يشربها، واستدارَ مغادراً.
مشى نحو الباب، وفي كلِ خطوةٍ كان يشعرُ وكأنه يخلعُ جلداً ميتاً. كان الألمُ يعتصرُ قلبه، نعم، فالإفاقةُ من المخدرِ مؤلمةٌ دائماً، وانسلاخُ العادةِ موجع، لكنه ألمُ التعافي، لا ألمُ الاحتضار.
خرجَ إلى الشارع. كان الهواءُ بارداً يلسعُ وجهه، والضجيجُ يملأ المكان، والناسُ يركضون في لهاثهم اليومي. نظرَ إلى السماء، كانت رمادية، لكنها كانت سماءً حقيقية، لا سقفاً زجاجياً في قفصِ أوهامه.
أدرك وهو يمشي وسط الزحام، أن الدرسَ كان قاسياً، لكنه كان ضرورياً. لقد تعلمَ أن الحبَ الذي يتطلبُ منك أن تلغي ذاتك، وأن تعيشَ على فتاتِ الأمل، وأن تنتظرَ المستحيل، ليس حباً.. بل هو عبوديةٌ مقنعة.
تعلمَ أن الواقع، بكل قسوته وجفافه، أشرفُ وأطهرُ من جناتِ الوهمِ الكاذبة. وأن الوحدةَ مع احترامِ الذات، خيرٌ ألفَ مرةٍ من علاقةٍ تقتلكَ ببطءٍ وأنت تبتسم.
سارَ طويلاً، بلا وجهةٍ محددة، لكنه كان يعلمُ يقيناً أنه يسيرُ بعيداً .. بعيداً عن الوهم، وعائداً، أخيراً، إلى نفسه. تلك النفس التي تركها وحيدةً لسنوات، تنتظرهُ أن يعودَ من رحلةِ الصيدِ الخاسرة.






































