لم يكن انسحابُ شعاعِ الشمسِ الأخيرِ عن حافةِ المكتبِ القديمِ مجردَ حركةٍ فلكيةٍ روتينية، بل بدا وكأنهُ نزعٌ بطيءٌ لروحِ المكان، طقسٌ جنائزيٌ صامتٌ تُسلم فيه الأشياءُ ألوانها للعدم. في تلك الدقيقةِ الفاصلة، حين تحولَ لونُ الستائرِ المخمليةِ من الأحمرِ القاني إلى رماديٍ كئيب، كان إبراهيم يرقبُ بعينينِ ذابلتين كيفَ يتخثرُ الضوءُ ويموتُ عند زوايا الغرفة، تاركاً المجالَ لتلك السحابةِ الكثيفةِ من الظلامِ المخيفِ لتهبطَ بثقلٍ على صدره، لا لتملأ الفراغَ فحسب، بل لتسدَّ مسامَ الهواء.
كان الصمتُ في الغرفةِ يمتلكُ قواماً لزجاً يكادُ يُلمس، لا يقطعهُ سوى صوتِ احتكاكِ عقربِ الدقائقِ في ساعةِ الحائطِ المعلقةِ منذ ثلاثين عاماً، صوتٌ يشبهُ وقعَ خطواتِ سجينٍ يذرعُ زنزانتهُ جيئةً وذهاباً. ذراتُ الغبارِ التي كانت تتراقصُ قبل لحظاتٍ في عمودِ الضوءِ المائل، تجمدت فجأةً وسقطت ميتةً على غلافِ كتابٍ مغلق، كأنها جنودٌ صغارٌ ماتوا بانتهاءِ المعركة.
مدَّ يدهُ المرتجفةَ قليلاً ليتحسسَ برودةَ فنجانِ القهوةِ المتروكِ منذُ الظهيرة؛ تلك البرودةُ التي انتقلت من الخزفِ إلى أطرافِ أصابعهِ لم تكن مجردَ فقدانٍ للحرارة، بل كانت تذكيراً ملموساً وفظاً بأنَّ الحياةَ قد غادرت هذه الزوايا. هنا، في هذا البرزخِ بين نهارٍ يحتضرُ وليلٍ يتجبر، تجسدت أمامهُ الحقيقةُ العاريةُ كصخرةٍ صلدة: إنَّ وحشةَ هذا الظلامِ الخارجيِّ، مهما تعاظمت، لا تُقارنُ بتلك الصحراءِ القاحلة التي خلفها رحيلُ الأصدقاءِ في داخله. صحراءٌ ممتدةٌ من التعبِ والرمالِ الزجاجيةِ الحادة، حيثُ كلُّ ذكرى هي كثيبٌ ينهارُ تحتَ قدميه، وكلُّ صدى لضحكةٍ قديمةٍ هو سرابٌ خادعٌ يزيدُ من ملوحةِ العطشِ في حلقِ الذاكرة.
تنفسَ بعمق، فدخلت رائحةُ الورقِ القديمِ ورطوبةِ الجدرانِ إلى رئتيه، رائحةُ الماضي الذي يتفسخُ ببطء، مدركاً أنَّ الليلَ القادمَ ليس سوى غطاءٍ للعين، أما يبابُ الروحِ فلا ليلَ يواريه، ولا فجرَ يمحوه.
قام إبراهيم، وركبتاه تصدران طقطقة خافتة، ليغلق الستائر. كان يكره هذه اللحظة؛ لحظة تحول زجاج النافذة من عين ترى الشارع، إلى "مرآة" تعكس وجهه. وجهه الذي شاخ فجأة، ليس بفعل السنوات، بل بفعل "التعرية". نعم، هذا هو الوصف الأدق. رحيل الأصدقاء لم يكن جرحاً يلتئم، بل كان عوامل تعرية نحتت روحه وحولتها إلى صحراء جرداء.
عاد ليجلس، لكن ليس على كرسيه المعتاد، بل على الأريكة الطويلة التي كانت يوماً ما "برلمان الأصدقاء". مرر يده على القماش المخملي البني. هنا، في هذه الزاوية بالتحديد، كان يجلس "رياض". رياض الذي كان صوته يملأ الغرفة ضجيجاً محبباً، والذي كان يصر دائماً على أن يقرأ قصائده بصوت عالٍ جداً وكأنه يخطب في جيش، لا في ثلاثة أصدقاء. مات رياض بسرطان الحنجرة، في سخرية قدرية سوداء، تاركاً صمتاً لا يمكن ملؤه. وهناك، في الطرف الآخر، كانت بقعة حبر قديمة على السجاد، "توقيع" أبدي تركه "علي" حين سقط فنجان قهوته وهو يضحك هستيرياً على نكتة سخيفة. علي، الذي ابتلعه المنفى في بلاد الثلج، ولم يعد يرسل سوى صورٍ لأحفاد لا يتحدثون العربية، عبر شاشة هاتف باردة.
أغمض إبراهيم عينيه، وبدأ يمارس لعبته الخطرة: "استحضار الأطياف".
الظلام في الغرفة الآن لم يعد مجرد غياب للضوء، بل أصبح كائناً هلامياً كثيفاً يتمدد في الزوايا. سحابة مخيفة، كما يصفها الشعراء، لكنها في الواقع أثقل من السحاب. إنها "كثافة الغياب". شعر بجفاف في حلقه. ليس عطشاً للماء، بل عطشاً لصوتٍ بشري مألوف يكسر حدة هذا السكون.
في الصحراء الحقيقية، يقتلك العطش أو ضربة الشمس. أما في "صحراء الأصدقاء"، فيقتلك "الصدى". صدى ضحكاتهم التي ترتطم بجدران الذاكرة وتعود إليك مشوهة. تذكر ليلة شتائية قبل خمسة عشر عاماً. كانوا هنا، الأربعة. رائحة الشاي بالهيل تعبق في المكان، ودخان السجائر يرسم سحباً زرقاء، وصوت فيروز يأتي خافتاً من المذياع. كانوا يتجادلون حول السياسة والأدب والنساء، بحدة من يظن أنه يملك الحقيقة، وبشغف من يظن أنه يملك الوقت.
قال "محمود" يومها – وهو الصديق الثالث الذي رحل بقلبٍ توقف فجأة وهو نائم:
"نحن يا رفاق لسنا سوى سطور في كتاب واحد، إذا تمزقت صفحة، اهتز المعنى في باقي الصفحات".
لم يفهم إبراهيم عمق تلك العبارة إلا الآن. هو الآن "الصفحة الأخيرة" المعلقة بخيط واهٍ في كتاب ممزق. المعنى اهتز بالفعل. بل إنه تداعى. تحرك إبراهيم نحو المطبخ ليشعل الضوء، لكن يده توقفت في منتصف الطريق. قرر أن يبقى في العتمة. الضوء سيكشف الغبار المتراكم على الكتب، سيكشف المقاعد الخالية، سيكشف حقيقة أنه وحيد تماماً في مواجهة ليل طويل آخر. الضوء وقح، والظلام ساتِر.
سار بحذر ، يتلمس الجدران. ملمس الطلاء البارد تحت أصابعه أعطاه شعوراً غريباً بالأمان. وصل إلى غرفة المكتب، حيث يقبع "صندوق الذكريات". صندوق بسيط، لكنه أثقل من تابوت. فتحه في الظلام، مسترشداً بضوء العمود الكهربائي القادم من الشارع.
أخرج شريط "كاسيت" قديماً. وضعه في المسجل الذي يحتفظ به كتحفة أثرية. ضغط زر التشغيل. دارت العجلات البلاستيكية بصوت ميكانيكي مسموع، ثم... انبعث الصوت.
لم يكن غناءً. كان تسجيلاً لجلسة سمر قديمة. صوت "رياض" يجلجل: "يا إبراهيم، اترك القلم وهاتِ الطاولة، الليلة سأهزمك في الطاولة كما هزمتك في الشعر!".
ثم ضحكة "علي" المجلجلة، وتعليق "محمود" الهادئ الساخر.
ارتجف جسد إبراهيم. الصوت كان نقياً، وحياً، ودافئاً، لدرجة أنه كاد يلتفت خلفه ليرى إن كانوا قد دخلوا الغرفة خلسة. للحظة واحدة، تراجعت الصحراء القاحلة. نبتت زهرة وهمية في صدره. الزمن ألغى نفسه. هم هنا. هاهو صوتهم، هاهو وجودهم، هاهي أرواحهم تملأ الفراغ.
لكن الشريط توقف.
"طَق".
صوت الزر وهو يقفز ليعلن نهاية الوجه الأول للشريط كان بمثابة رصاصة رحمة، أو رصاصة إعدام. عاد الصمت، ولكن هذه المرة كان أشرس. الصمت الذي يلي الضجيج المحبوب هو أقسى أنواع العذاب. إنه يجعلك تدرك عمق الحفرة التي أنت فيها.
شعر إبراهيم بوهن شديد في مفاصله. جلس على الأرض بجوار المسجل، ركبتاه تلامسان البلاط البارد. هذه هي الصحراء إذن. ليست رمالاً وشمس، بل هي أن تملك الدليل على وجود الماء (الشريط)، ولكنك لا تستطيع أن تشرب منه. أن تملك أصواتهم، ولكن لا تملك أجسادهم. أن تملك الذاكرة، ولكن لا تملك الحاضر.
نظر حوله في الغرفة التي ابتلعها "الظلام المخيف". رأى أثاثه القديم يبدو كأطلال مدينة مهجورة. المكتبة بدت كعمارة سكنية غادرها سكانها. طاولة الوسط بدت كساحة عامة فارغة بعد انتهاء الاحتفال. كل شيء كان يصرخ بكلمة واحدة: "انتهى".
النهار رحل، وترك هذه السحابة السوداء التي تخنق الأنفاس. والأصدقاء رحلوا، وتركوا هذا الامتداد اللانهائي من التعب. تعبٌ لا يعالجه النوم. تعب الروح التي تبحث عن مرآة فلا تجد إلا السراب.
تحامل إبراهيم على نفسه ونهض. أمسك بقلم وورقة كانت ملقاة على المكتب. في ضوء الشارع الشحيح، كتب بخط مرتجف جملة واحدة، وكأنه يكتب وصية ناجٍ وحيد في جزيرة نائية، يضعها في زجاجة ويلقيها في بحر الظلام:
"إلى رفاقي الذين صاروا تراباً أو غياباً.. الليلُ هنا موحشٌ جداً، وأنا، حارسُ ذكراكم، بدأت أنسى شكلَ وجوهكم، لكنني ما زلتُ أميزُ وقعَ خطاكم في صدري.. لا تتأخروا في المجيء إليّ في المنام، فالصحراءُ اتسعت، وزادي من الصبر قد نفد."
استند برأسه إلى الخلف، وترك لعينيه أن تغرقا في السقف المظلم، هامساً لرفاق الغياب: "طابت ليلتكم، أينما كنتم.. في التراب، أو في الغربة، أو في قلاع النسيان.. ، وأنا ما زلت هنا، حارساً لهذه الصحراء حتى إشعار آخر".
وهكذا، استمر الليل في زحفه، واستمر إبراهيم في ثباته، نقطة ضوء وحيدة وعنيدة في محيط من العتمة، يحيا على شفا حفرة من الذكرى، متمسكاً بخيط رفيع من الوفاء يربط بين عالم الأحياء وعالم الظلال، مدركاً أن أقسى ما في الرحيل ليس الغياب، بل بقاء الحب عارياً بلا أصحاب، يرتجف في زمهرير الوحدة، باحثاً عن مأوى في قلب رجل عجوز، قرر ألا ينام الليلة إلا وقد سقى صحراءه بدموع الوفاء الصامت.






































