كانت الحارة القديمة تستيقظ ببطء، كعجوزٍ يفتح عينيه على ذاكرةٍ أنهكها الزمن. يخرج الضوء خجولًا من بين الشقوق، يلامس الحجارة الرطبة والجدران المتعبة، حتى يبلغ نهاية الزقاق، حيث يقف شيخٌ نحيل، مهيب الحضور، كأنه ظلٌّ نُقِش على صفحة الفجر منذ أزمانٍ بعيدة.
متجهًا نحو المسجد القديم. كانت خطواته متزنة هادئة، كأنما تقيس الأرض بميزان من نور، لا عجلة فيها ولا بطء، بل إيقاعٌ ثابتٌ يعرفه كل من رآه، كدقات قلب الحارة نفسها. لكن العين لم تكن لتلحظ خطواته قبل أن تلتقط، باندهاش لا يخلو أحيانًا من ابتسامة، لون حذائه.
لم يكن حذاءً عادياً. كان لونه وردياً صارخاً، كلون زهر الخوخ في ربيعها الأول، لونٌ يناقض جلال شيخوخة صاحبه ووقار ملابسه البيضاء. كان ذلك الحذاء الوردي يشق طريقه بين أحذية الرجال البالية والملونة بالأتربة، كفراشة نادرة تهبط على أرض قاحلة.
لم يكن أحدٌ يسأل، لكن الأسئلة كانت تُرسم في العيون. أتراه يلبسه سهواً؟ أم أن ضعف البصر قد بدأ يخونه؟ أم هي، ربما، غرابة أطوار الشيخوخة التي تطل برأسها بين الحين والآخر؟ ظلَّ هذا التساؤل سراً من أسرار الصباح، حتى ذلك اليوم الذي قرر فيه أحد الشبان طيب القلب الممتلئ بالمرح، أن يفضح ذلك السر بلطافة.
كان الصباح ضبابياً، والهواء ينقل عبق التراب المبلول. توقف الشاب في طريق الشيخ، وابتسم ابتسامة عريضة تشرق بها محياه.
"السلام عليكم يا عمنا، وصباح الخير بحذائك الجميل!" بدأ مازحاً.
رد الشيخ التحية بابتسامة هادئة كبحيرة في ليلة ساكنة، وعيناه تنظران بعمق إلى الشاب.
"ألا تخبرنا سر هذا اللون المبهج؟" تابع الشاب، "لعلك استيقظت قبل أن تستيقظ عيناك، فانتعلت حذاء بناتك بالخطأ؟!"
لم يغضب الشيخ، بل ارتسمت على شفتيه ابتسامة حزينة كأنها ذكرى مؤلمة، ثم أدار بصرَه إلى حذائه الوردي، ونظر إليه طويلاً، كأنما يرى عبره عالماً آخر. ثم رفع رأسه ببطء، ونظر إلى الشاب، وفي عينيه بريق ماء متألق تحت ضوء القمر.
"لا يا بني.. هذه ليست نعال بناتي.." قال صوته خافتاً كحفيف أوراق الخريف. "هذه نعلي زوجتي.. رحمها الله."
تبدّد المزاح في وجه الشابّ، وعمّ المكان سكونٌ مهيب، كأنّ الحارة نفسها أنصتت.
أشار الشيخ إلى مقعد حجري قديم تحت شجرة زيتون عتيقة، كأنه يريد أن يجلس، فجلس الشابّ إلى جانبه، منتظراً.
أخذ الشيخ النعل من رجله برقة بالغة، كأنه يمسك بيد رضيع، ووضع النعل على ركبته برفقٍ كمن يحمل ذكرى حيّة
بدأ الشيخ، يفتح باباً من الذكريات. "توفيت قبل خمس سنوات.. كانت تحب هذا اللون.. قالت لي يوماً: ، لماذا دائماً الألوان القاتمة للرجال؟ الحياة تحتاج إلى بصيص نور. اشتريت لها هذه النعال في عيد ميلادها، ففرحت بها كطفلةٍ بثوبها الأول.
توقف قليلاً، وكأنه يستعيد صورة كانت جميلة لدرجة تؤلم.
"كانت مريضةً في سنواتها الأخيرة، ولم تعد تقوى على المشي إلى المسجد.. كانت تسمع الأذان من نافذتنا، وتقول لي: كم أتمنى أن أخطو معك إلى بيت الله خطوة واحدة. فكنت أحملها أحياناً وأطوف بها في ساحة الدار، فتضحك وتقول: 'هذه خطواتنا إلى المسجد'."
امتلأت عينا الشيخ بالدموع، لكنه لم يمسحها، كأنه يريد لها أن تروي جفاف قلبه.
هنا غلبت الدموع صوته، لكنه لم يمسحها.
قال بعد لحظةٍ طويلة من الصمت:
"قبل رحيلها بأيام، أخرجت هذه النعال وقالت لي:
خذها يا حبيبي... فإذا متُّ قبلك، فانتعلها وامشِ بها إلى المسجد.
لعلّ الله يكتب لي أجر خطواتك."
سكت الشيخ، والصمت حولهما أصبح له صوت، صوت ذكريات تتهامس في زوايا الحارة.
"فأنا كل صباح.. حين أنتعل هذه النعال.. لا أشعر أني أمشي وحدي.. أشعر أن روحها تمشي معي.. أن خطواتي هي خطواتها.. أن سجودي هو سجودها.. أضع قدمي في المكان الذي كانت ستضعه هي.. ألمس الأرض بباطن نعليها.. وكأني أقدم لها هدية متواضعة.. أجراً من أجر المساجد.. كانت تتوق إليه."
نظر الشيخ إلى الشاب، وفي عينيه كل حكمة الدنيا.
"تعلم يا بني.. الحب الحقيقي لا يموت.. إنه يتحول فقط.. من لمسة اليد إلى ذكرى.. ومن قبلة على الجبين إلى دعاء في السجود.. هذه النعال الوردية.. هي الآن جسر بيني وبينها.. بين الأرض والسماء.. بين الدنيا والآخرة."
لم يتكلّم الشاب. مدّ يده وقبّل يد الشيخ بصمتٍ مهيب، فيما كان الفجر يكتمل حولهما. كان الضوء يغمر الحارة القديمة كأنّه يبارك تلك الخطوات التي تمشي بنعلٍ ورديّ، تُكمل صلاةً بدأها قلبان، أحدهما في الأرض... والآخر في السماء.





































