أينما حلّت الحرب، حلّت النارُ التي تشتعل؛ فتأكلُ ما استطاعت إليه سبيلاً، وعندما ترحلُ، تتركُ رمضاءها تعبثُ بما تبقى من مظاهرِ الحياة .
فعلت الحرب بقطاعِ غزة ما فعلت، أودعته أكواماً من الحزن، الوحشة، والضياع، وما زادهم ذلك إلا إيماناً، وصبراً، وإصراراً على النصر، مرَّ خمسةُ أيامٍ على معركة سيف القدس_٢٠٢١_ لم يهدأ القصف بها، ولم يغفُ جفنٌ، قلقٌ وتوتر يتربصان بالجميع.
كان حي الرمال _ أحد أحياء مدينة غزة_على غير عادته فارغاً تماماً من المارة، و كانت أصوات الصواريخ الصهيونية تدوي في كل مكان، جلسَ أبو صبحي أمام شاشة التلفاز يراقبُ أعدادَ الضحايا، يدعو بالرحمة للشهداء، بالصبرِ للأرامل الثكالى، وبحياةٍ أفضل لليتامى المكلومين.
جاءت زوجته تناديه لتناول الإفطار، رفضَ معللاً :" و من لديه القابلية لكسرِ جوعه، و جوع المنكوبين يلوذُ بهم كثعبانٍ أقرع ؟!"
صمتَ هنيهةً ثم أردفَ: "ما أخبار شيماء؟ ، أهي حزينة لتأجيل موعد زفافها ،أم تتفهم الأمر ؟؟! هوني عليها ؛فليس سهلٌ عليَّ فضَّ فرحتها و كسرَ خاطرها ".
أجابت الزوجة بعدَ تنهيدةِ مؤمنة :" يا أبا صبحي،أنتَ تتكلم عن صبية، شيماء لم تعد طفلة، بضعُ سنواتٍ و تصبحُ طبيبةً بكل فخر، إنها وخطيبها متفهمان جدا للوضع الحالي "
ردّ عليها :"الحمد لله، تعرفينَ أنني أجلتُ أيضاً موضوع بيع محلنا التجاري إلى أن تنتهي الحرب فمن سيشتري عقاراً والحرب قائمة ولا ندري هل سنخرج منها أحياء أم هذ المرة سيكون دورنا. أدعو الله أن أجد سعراً مناسباً علَّني أتمكنُ من تغطيةِ مصاريفِ الزفاف"
هوَّنت عليه زوجته بفيضٍ من الأمل وكثيرٍ من الدعاء ،فرزقُ البناتِ وافر، و لن ينساهُ الله من فضله لأنه أحسنَ تربيةَ ثلاثِ فتيات، شيماء كانت أوسطهن.
منذ بداية الحرب اعتادت شيماء أن تُهاتفَ خطيبها أنس في غرفتها يطمئنان على بعضهما، فقد تواعدا أن يطمئن كل منهما على الآخر طيلة أيام الحرب، لا يريد أحدهما أن يفجعه خبر الآخر .
كان أنس شاباً خلوقاً باراً بوالديه مما جعله يُحسن الاختيار في زوجة المستقبل، فاختار شيماء ذات العلم و الدين، فإضافةً لكونها تدرسُ الطب فهي أيضاً من حفظة كتاب الله، وكأنها جزاءً من الله على طاعته لوالديه.
وُلدت بينهما المحبة و المودة منذ اللقاء الأول، فجعله الله سكناً لها، وجعلها رحمةً له من ملذات الحياة .
كانا يجهزان لزواجها بعد خطبة دامت سنتين، اختارا الأثاث معاً قطعةً قطعة، نسقا الألوان، ورسما صورة زاهية لحياتهما بالورقة والقلم .
على مدار عدة أشهر كانا يخرجان للتسوق بين الفينة و الأخرى، ويبتاعان ما راقَ لذوقيهما وينقلانه إلى بيت والدِ شيماء إلى أن تجهز شقتهم السكنية .
ليلةَ الخامس عشر من مايو استغل أبو صبحي الهدوء المفاجىء الذي حل على سماء الحي وخرج يبحث عن دكان مفتوح يبتاع منه بعض النواقص للبيت .
أصبحت الساعة الواحدة صباحاً ولم يعد أبو صبحي بعد ،ولكن بدلاً منه جاءت بحضورٍ قويٍ طائرات ال اف ٣٥، ووجهت صواريخها نحو العمارة السكنية التي تسكنها عائلة أبي صبحي .بالعادة تضرب الطائرات صاروخاً تحذيرياً لتُخرجَ السكان من العمارة قبل القصف أو تهاتفهم بخصوصِ ذلك، ولكن هذه المرة كانت تجهز لهم مفاجأةً من العيار الثقيل .
لربما راقبَ الاحتلالُ تلكَ الفرحةَ البريئةَ في عيونِ شيماء وأنس، فأبى إلا أن ينغص عليهم عيشهم، و يغتالَ بكلِّ وحشيةٍ تلكَ الفرحة.
انهالت الصواريخُ على العمارة المكونة ِ من أربعةِ طوابق، سقطت بلا حولٍ منها ولا قوة، وسقط معها ساكنيها، سقطت شيماء وسقط ذويها، محتجزون تحت الأنقاض، يكابدون الألم، يحاولون رفع ما ازدحم فوق صدورهم من حطام، انتظروا النجاة التي ضلت طريقها إليهم في ذلك اليوم. حاولت شيماء الاتصالَ بأنس ليكون طوقَ نجاتها، أو لربما أرادت تلقينه بضعَ دروسٍ في الصبرِ و الأمل من بعدها، أو لعلها أرادت أن تسمعَ صوته مرافقاً لترديد شفتيها الشهادتين، لكنها لم تنجح في ذلك، انتظرت مع البقية لأكثر من عشرِ ساعات، دونَ سبيلٍ للنجاة، ثم بعدها خرجوا من تحت الركام.......... شهداء .
انتشرَ الخبر، وتفشى أمرُ تلكَ الجريمة، وركضَ أنسَ بكل طاقته، علّه يتعثرُ بعليلٍ من أنفاسها، علّه بنظراته يُنعشُ قلبها، فتعود الحياة إليه من جديد.
بعدَ لحظاتٍ وصل أنس ُ لعروسه يخرجها من تحت الأنقاض، يحاول إنقاذها، يحاول إمدادها بالحياة من نبضه، أمسكَ بيدها الباردة، شدها ببطء نحوه، رفع ما اكتظ فوقها من بقايا جدران، وحملها بين ذراعيه، وجهها كالقمر ضاحك مستبشر، خجلت عبرات وليد أن تنهمر لما رأت ابتسامتها، فابتسم لها بفيض من الحسرة و قال :" مكانك الجنة، يا عروس الجنة، سيحتفلون بكِ هناك، سترتدين فستاناً من الياسمين، وتاجاً من المرمر ) .
أخرجوا شهداء العمارةِ من تحت الأنقاض، كفنوهم، و شيعوا جثامينهم الطاهرة إلى مثواها الأخير، توسطت شيماء جموع الشهداء متشحةً بالعلم، وأنس يحملُ نعيشها مع الركب، نثروا عليهما ورداً وحباً ونصراً يحكى لآلاف السنين، زفوهما، هي إلى جنة الخلد، وهو إلى مصيرٍ مجهول .