تقولُ أمي كلما فارت قهوتها محدثةً فيضاناً طال سيلُه عيون الموقد: دلقُ القهوةِ خير!
أيُّ خيرٍ يتأتّى من ذاكرةٍ عرّت وجه القهوة؟!
سلبتها أشهى رشفةٍ تسوقُ إلى شفتيك رغوةً بنيةً بنكهةِ الحلم.
لا تأبه أمي لمعتقداتي الخرقاء وتكملُ سيرها نحو خزانة الأواني، ترفع قدميها عن الأرض قليلاً، تستطيلُ أكثر مادّةً ذراعها نحو الرف العلوي حيثُ يرقدُ طقمُ فناجينها بصمت! ذلك الطقم الذي ورثته عن جداتها، تلتقطُ فنجاناً مع صحنه، تضع الصحن على طاولةِ المطبخ الخشبية وتُسكِنهُ فنجانه فيهدأ نبض الأمير الهارب من العصر الڤيكتوري بلمسِ يد أميرته، تسكبُ قهوتها العارية إلى أن يمتلأ الفنجان ويكتظّ قلبُ الأمير بالحب، ثمّ تُنحي الركوةَ جانباً وتجلسُ تحتسي فنجانها الصباحي بين صمت الطناجر وسكون الملاعق...
تخرج أمي من المطبخ تاركةً خلفها زُحاماً من القرنفل والحب هان تعبقان بذاكرةِ المكانِ والإنسان...
تلكَ هي أمي، أما أنا ففي كلّ مرةٍ أصنعُ فيها القهوةَ لنفسي أشتهي ذلك الطعم، أحرص على إتقانه، على تطبيق الوصفة بحذافيرها وإن لم تكن وصفةً من الأساس، لكن دون جدوى يخرج فنجاني باهتاً أخرساً بلا روح ولا حياة!
كيف لأمي أن تبثّ روحاً بفنجان قهوة؟ كيفَ لها أن تحشد كل ذلك الأريج بغير حولٍ منها ولا قوة؟
لعل الدلقَ ما يصنعُ ذلك؟! لعلهُ خيرٌ إذن، أم أنّ الحرص الشديد يفقدُ الأشياءَ أرواحها؟!