تنتصبُ قامتها كغصنِ بانٍ وسط الجموع، تضربُ بقدميها الأرض بتوليفةٍ من العنفوانِ والرقة؛ فيصدح خلخالها بترنيمةٍ تخلقُ جلبةً في قلوبِ المريدين، يلتف جسدها الغض ب (الملية) وتعتمر (التاونزا) على رأسها فتتدلّى أجزاءٌ منها لتغطي جبينها بالكامل؛ تاركةً شعرها البني يجابهُ ثورة النسيم وحده، وتظهر عيونها العسلية مشرقةً بحدودٍ خطّها الكحل بحرفيّةٍ عالية، ويزيدها شهيّةً وشمٌ أمازيغي يرقد بسبات بشكلٍ طوليٍّ على منتصف ذقنها، كمرشدةٍ سياحية لا تُفوّتُ فرصة المشاركة بال (الخرجة) التي يُنظمها النادي الثقافي التونسي في الثالث عشر من يناير من كل عام احتفالاً برأس السنة الأمازيغية، يرتدي فيه المشاركون الزي الأمازيغي التقليدي، يُغردون أهازيج (الحضرة التونسية)، يرقصون بانتشاءٍ على أنغامٍ صوفية ويهنئون بعضهم البعض بحلول عامهم الجديد ٢٩٦٦.
تسيرُ ذكرى ثابتةَ الخطى موزعةً ابتساماتها لكلِّ من تلاقت به عيناها، إلى أن جاء دوره لاستلام خاصته، قبض عليها خشيةَ أن تفارقه، لم تُشبع شغفه؛ فتمرد على قانون المساواة الذي أبرمته لابتسامات ثغرها، وبقي يلاحقها من مكانٍ لآخر إلى أن سنحت له الفرصة بالانفراد بشخصها! تلاحظُ وجوده، تتفرسُ ملامحه، رجلٌ في أواخر الثلاثين، ذو ملامح هادئة غارقة في سُمرة بشرته، بشعرٍ أسود خالطه الشيب وعينين براقتين تهزمان قانون الجاذبية، أدركت أنه غريبٌ عن البلاد، وما إن بدأ الحديثَ متغزلاً بجمالها حتى فضحته لهجته؛ فردت قائلة:
_ لم أكن أعلم أن الفراعنة يُجيدون الغزل هكذا!
ضحكَ لدهائها المفتعل، ثم قال:
_ الفراعنة بارعون في كلِّ شيء صدقيني!
_ لستَ أبرع من أمازيغية تقرؤك مثلما تقرأ آثار القهوة في الفنجان!
_ سأعترفُ أنني أُعجبتُ بذكائك، ولكنني سأرد لقومي ثأراً قديم، فمثلما انتصر الملك الأمازيغي (شيشنق) على الفراعنةِ يوماً، سأنتصرُ أنا على أمازيغيةٍ متمردة، وأُعيد الحق إلى أهله!
تعالت ضحكاتهما، وأدركا أنها بدايةُ فصلٍ جديد في رواية كليهما.
أحمد شابٌ طموح أتى إلى تونس الخضراء ليكمل شغفه بالتاريخ والآثار، باحث مجتهد يُفند كل صغيرة وكبيرة لخدمة هدفه، اقترحت اسمه كلية الآثار _التي يعمل فيها كمحاضر_ لهذه البعثة والتي تستمر عاماً كاملاً.
سلبت ذكرى لبه منذ لقائهما الأول، توّطدت العلاقة بينهما تحت مسمى الصداقة ثم تخطت ذلك لتدخل حيز الغرام، راقه شغفها به، تمردها على قوانين العادات، كبرياء لم يره في أنثى أخرى، المرأة التي تجمع الأضاد في جسدٍ واحد؛ فهي (ديهيا الأوراسية) قوية، متماسكة، ثائرة، وهي كذلك الريفية المطيعة لزوجها الشرقي التي تُنَصّب أوامره في أولى الأولويات، أما هي فراقتها شرقيته، اهتمامه المتفرد بها، تملكه لقلبها، تنفسه لهواء يتشبعُ بدقائقها؛ فتشبثت به خشية الفراقِ يوماً كما يتشبثُ الوليد بحضن أمه، علّمها مما تعلم، أسكنها كتب التاريخ، قصّ عليها حكايات الملوك والآلهة، قلّدها منصب الحكم في إحدى القصص، جعلها قوتَ شعبٍ في قصةٍ أخرى، وأثرى ثقافتها إلى أن ذاع صيتها في الإرشاد السياحي.
أخبر أحمد ذكرى ظروفه كاملة، وأكّد لها أنه سيسافرُ فور انتهاء البعثة إلى بلده لكنه سيعود ليتوجها ملكةَ قلبه بمراسمٍ رسمية، عاهدها على الولاء، وأقسمت له بالصدق والوفاء مهما اختلفت بهم السبل، ومهما فرّقت بينهم المسافات، كيف لا وقد وحّدا مملكتين في قلبٍ واحد.
يأتي يوم الوداع على حين غرة، يُحزّم الحقائب ويقودها وذكرى إلى صالة المغادرين، تُلَوّح له بيدها أن لنا لقاء قريب، ويُلَوِّح بيده أن سنبقي على اتصالٍ دائم.
حطَّ قلبه في تونس وهبط في القاهرة، أمسك الهاتف المحمول يطمئنها على وصوله، لكنها لم تجب وعوضاً عن ذلك أرسلت له رسالة نصية: "فرعوني الحبيب... تغلبنا الأقدار ولا نغلبها، قضينا وقتاً ممتعاً، لكن وحدة الفراعنة والأمازيغ لن تتم، لا أقوى على فراق أهلي، ولن تجعلك طباعك الشرقية ترضخ لمطلبي وتمكث في تونس بعيداً عن أهلك، فأصدق الطرق أقصرها، فراقٌ الآن أفضل من عذابٍ لاحق"! صدمته الرسالة، كيفَ لها أن تئد مشاعراً في عامها الأول، كيفَ حنثت بيمينها ومزقت عهده كوثيقةٍ بالية وُقعت عنوةً بين بلدين متحاربين؟!
مضت أشهرٌ وجراحه قد أُثخنت، بات متصالحاً مع نفسه، فقد أحبها، أخلص لها، وعدها بالأفضل لكنها افترضت النهاية وأصدرت قراراً تعسفياً بالنفي، ستبقى الذكرى الجميلة التي لن ينساها أبداً.
بعد عدة أشهر وافته الجامعة ببعثةٍ جديدة إلى تونس، سافر وكله رضا بما حدث سابقاً، انهمك في عمله هذه المرة ليشغل وقته قبل أن يشغله قلبه!
مضى يومان على قدومه، يجلس على أريكته، يحتسي قهوته في كوبه الشفاف وينفثُ دخان سيجارته في الهواء... وفجأة اقتحمت طرقاتٌ على الباب خلوته، فتح الباب ليجدها أمامه بعينين دامعتين ولسانٍ عاثر لا يعرفُ ما المبرر لقدومها بعد أن لفظته من حياتها، حاولت البوح عن السبب فقالت:
"لم يقوَ قلبي على الفراق وحينما علمت بقدومك شممتُ ريحَك؛ فجئتُ عنوانك أبحثُ عن فرعونٍ قد أعاد الحق إلى نصابه يوماً فهل سيقبلني بصك غفران؟!"
أنهت كلامها بتنهيدةٍ زفرت فيها كلَّ حزن مكتوم، أما هو فكان يراقبها متعجباً لأمرها، قلبه ما زال ينبض بها، متلهفٌ على لقياها، لكنها آلمته، أوجعته، ثكلته بعيداً عن قلبها وجلست تتمايل على أنّاته، ماذا سيفعل؟ أَيفتحُ ذراعيه لحضنٍ جديد يعيدُ سيرتهما الأولى، أم سيوليها ظهره كما فعلت يوماً؟! هل سيسامح أم سينتقم؟! أن يسامح لا يعني أن يتنازل عن ضعف وقلة حيلة بل أن ينتصر على نفسه بإيجابية وصدق؛ فرب العباد يغفر فكيف حال العباد؟!
عاد الحب يدق قلبيهما من جديد، جددت عهدها وصدّقه للمرة الثانية، لكنه حذرها من تسامح شرقيٍّ قد يتحول إلى لعنةِ فرعونيّ، أكدت صدقها وبررت بأنها تخشى فكرة غيابه، تخاف التعلق به، لربما هي أنانية لا تقايض أهلها به! أمازيغية متمردة تخشى الانهزام أمام النوى، تهاب الغرق فتفضل عدم ركوب السفينة! آمن روعها بخطبتها من والدها على أن يعقد القران فور إخبار أهله وترتيب أمور سفرها إليه.
بعد شهرين من السعادة، حان الوداعُ من جديد، تركها وقلبه على وعدٍ بأن تتم الأمور بسرعة. لم يمضِ وقت طويل على مهاتفته لها يبشرها بتمام الأمور، بقي أن تجهز أوراقها للسفر إليه، لكنها اختلقت أعذاراً بعدم جاهزية الورق بعد، لا تنوي الابتعاد عن أهلها، وفي الوقت ذاته لا تريد خسارته، فماذا تفعل؟!
مكالمة هاتفية من الأب لأحمد يوضح له فيها الأمر ويطلب منه العيش في تونس طالما أنه يحب ابنته! لم يعطه فرصة للرد وترك له مجالاً مفتوحاً للتفكير. علمت ذكرى بمكالمة والدها، هاتفته تعتذر على تدخله بينهما من جهة ومن جهة أخرى تؤيد اقتراحه؛ فلمَ لا يأتي للعيش في تونس؟! لكنهم اتفقوا منذ البداية على العيش في مصر فلماذا بعد كل هذا الوقت تعيد النظر في اتفاقية أبرمتها معه بكامل قواها العقلية؟! لماذا ستجعل خوفها من الفراق يُدير دفة حياتهما؟!
حاولت استعطاف قلبه بذكرياتٍ وفيضٍ من الدلع، لكنه بات مكلوماً فانتحبت قائلة: "فرعوني... بيدك إحياء حبنا من جديد!"
بشهيقٍ يطفئُ حريقاً قد شبَّ في داخله أجابها: "لم أسمع يوماً عن فرعونٍ أحيا ميتاً!"