الأصحاب لا يمكن أن يمروا على مناسبة الزواج مرور الكرام، خاصة حين يكون العريس صديقًا عزيزًا تجمعنا به علاقة وطيدة. فالأفراح في السودان ليست مجرد مناسبة شخصية، بل هي حدث اجتماعي شامل، يشارك فيه الأهل والجيران والأصدقاء، ويصبح بمثابة مهرجان صغير يمزج بين البهجة والتقاليد.
في إحدى المرات، شددنا الرحال إلى ديار الأقارب القريبة من منطقتنا، لنكون جزءًا من عرس صديقنا. وبعد أن انتهت معظم البروتوكولات والكرنفالات المعتادة من غناء ورقص وزفة، بقيت المرحلة الأهم: اصطحاب العروس إلى منزلها الجديد. هذه اللحظة في العرس السوداني ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي طقس اجتماعي متكامل يحمل رمزية خاصة.
قطع الرهد: العادة الراسخة
من التقاليد السودانية في هذه المرحلة ما يُعرف بـ"قطع الرهد". يُؤتى بحبل مصنوع من السَّعَف، تُعلق فيه حبات من التمر وتُلف حول خاصرة العروس. ثم تُغطى العروس بقطعة قماش مخصصة لهذه الطقوس، ليقترب العريس في مشهد احتفالي، ويقطع الحبل معلنًا بدء حياته الزوجية. عندها تنطلق الزغاريد وتتعالى الأهازيج، في مشهد يملأ المكان فرحًا وبهجة.
هذه العادة متجذرة في وجدان السودانيين، وتحمل دلالات رمزية مرتبطة بالخصب والبركة والاستبشار بحياة عامرة بالخير. لكنها، كغيرها من العادات، ليست واحدة في كل السودان، بل تختلف تفاصيلها من منطقة إلى أخرى.
المفاجأة الحسانية
لكن في تلك المناسبة، فوجئنا بمشهد غير مألوف. إذ لم ينزل العريس من السيارة كما اعتدنا أن يفعل الرجال عند "قطع الرهد"، بل جاءت أخت العروس أو إحدى قريباتها لتضع خاتمًا من الذهب في يده أو جيبه. سألنا عن الأمر، فقيل إنها عادة خاصة بالمجتمعات الحسانية، حيث لا يُكمل العريس طقوسه إلا بهذه الإضافة.
تابعنا الموكب إلى منزل الزوجية الجديد، مقتنعين أننا أنهينا "قطع الرهد"، وبالتالي فقد أكمل العريس كل البروتوكولات. وكما يردد الشباب ساخرين: "العريس ساق عروسته وخلى العطالة يحوموا". فالزواج الشرعي يكتمل بمجرد العقد، لكن عند هذه المجتمعات لا يُعتبر الرجل "زوجًا فعليًا" إلا بعد أداء هذه الطقوس الرمزية.
المهر الثاني
بلغت المفارقة ذروتها عند الوصول إلى منزل العريس. إذ رفضت العروس النزول من السيارة! تعالت الأصوات واحتد النقاش، خصوصًا من صديق العريس الملقب بـ"الوزير". فقيل لنا إن العروس لن تنزل إلا بعد دفع مبلغ مالي إضافي. لا يُحدد هذا المبلغ بدقة، لكنه بالتأكيد ليس قليلًا. إحدى القريبات قالت بحزم: "ضعوا المال هنا حتى تستلموا زوجتكم".
أربكنا الموقف جميعًا، فالعروس تقف أمام منزلها الجديد، لكنها لا تنزل إلا بعد دفع "المهر الثاني". انفجر بعض الشباب بالضحك، بينما قال آخرون ساخطين: "إذا كان كده… ما بنعرس تاني!". المفارقة هنا أن المبلغ لم يكن يساوي شيئًا أمام التكاليف الكبيرة التي سبقت، لكنه يعكس فكرة أن الزواج لا يكتمل إلا بالمال والرمز معًا.
بين السمح والمعقّد
الزواج في السودان، برغم ما فيه من تعقيدات، يظل مناسبة تُبرز أجمل ما في المجتمع من تكافل وتعاون. فالناس يتنادون لمساعدة العريس، وتُوزع المهام بين الأهل والأصدقاء، ويصبح العرس مناسبة يشارك فيها الجميع دون تفرقة. غير أن بعض العادات، مثل "المهر الثاني" أو "الذهب الإجباري"، تضع ثقلاً إضافيًا على كاهل الشباب.
في بعض المناطق الأخرى، نجد عادات مختلفة لا تقل طرافة. ففي شرق السودان مثلًا، تُقدم العروس كوب ماء للعريس كإشارة إلى الطاعة والمودة. وفي غربه، قد يطلبون من العريس أداء بعض الاختبارات الرمزية ليثبت رجولته. وبين هذه وتلك، يظل القاسم المشترك هو السعي لإضفاء طابع احتفالي يجعل الزواج حدثًا لا يُنسى.
التحدي في العصر الحديث
السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن لهذه العادات أن تصمد أمام زحف العصر الحديث؟ فالعالم يتغير بسرعة، ومعه تتغير القيم والأولويات. لم يعد الشباب اليوم يقبلون بسهولة التكاليف الباهظة ولا التعقيدات المرهقة. وقد عبّر بعضهم بتهكم في تلك المناسبة قائلين: "ياخ خلي العروس تنزل بالتحويل البنكي… ورينا الإشعار وخلاص".
ربما يكون في هذه العبارة الساخرة بعض الحقيقة. فالتكنولوجيا أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية، ومن غير المستبعد أن تأتي لحظة يُعلن فيها العريس عن إكمال طقوس "قطع الرهد" عبر إشعار دفع إلكتروني يظهر على شاشة هاتفه، بدلًا من المناقشات الحامية والشد والجذب.
الخاتمة
الزواج في السودان مزيج من الأصالة والحداثة، من العادات السمحاء والمفارقات المرهقة. وبينما ينبغي علينا الحفاظ على الطقوس التي تُعبر عن هويتنا وتراثنا، علينا أيضًا تطويرها لتواكب روح العصر وتُخفف العبء عن الشباب.
فليس الجمال في الذهب ولا في المبالغ النقدية، وإنما في اجتماع الأهل والأصدقاء، وفي لحظة الفرح التي توحد القلوب. لعلنا، إذا استطعنا الموازنة بين الماضي والحاضر، نُبقي على نكهة الزواج السوداني الفريدة، دون أن نثقل كاهل المقبلين عليه.