قلت له:
الحياة لم تكن يومًا سوى أقوالٍ وحججٍ واهية، نُرددها لنهرب من مواجهة الحقيقة، أو لنغطي بها عجزنا.
أنا لم أعرفك أكثر مما عرفتك منذ سنوات الدراسة الأولى، لكني كنت أؤمن بك.
بك أنت، لا بتفاصيلك المتغيّرة… بصوتك الجهور، الصادق، الذي ما اعتاد الصمت حين يعلو الظلم.
فلماذا سكت؟
ما الذي أوصد فمك فجأة؟
هل نحن في زمن يُرغم الصادقين على الانكفاء؟
ألم نكن نؤمن معًا أن الصوت لا يُكتم حين يكون مع الحق؟
ألم نتعلّم، في تلك الساحات الضيقة والصفوف المدرسية، أن نرفع أيدينا لا لنجيب، بل لنُعلن مواقفنا؟
أين أنت الآن؟ ما الذي أثقل لسانك؟
هل في العمل؟ في الأسرة؟ في صدرك ضيقٌ لا يُحتمل؟
أنا هنا، كما كنت دومًا، أذنٌ صاغية، وقلبٌ مفتوحٌ لك.
قلت لابني الذي مرّ بنا:
"هاتِ لنا عصير مانجو بالحليب، ولا تتأخر. الحديث طويل، والقلوب تحتاج ما يبردها."
دخلنا غرفة الاستراحة، ذلك الركن البسيط الذي لطالما جمعنا على همس الحياة وتفاصيلها الصغيرة.
جلست أمامه كما كنا نفعل في مقاعد الجامعة، نضحك على أحلامنا الكبيرة، ونقسم ألّا نكون كبقية الناس، نبيع قناعاتنا إذا ضاقت بنا السبل.
قلت له بهدوء بعد أن شربنا أول رشفة:
"مررت بمنزلك قبل أشهر، دون موعد.
كنت مشحونًا بشوقٍ قديم، لا أعرف له سببًا.
لكن ما وجدت، لم يكن في الحسبان..."
وجدت نفسي أمام بوابة قسم الشرطة.
لم أكن أبحث عنك، بل عن شخص كنا نحبه… نحترمه… نعدّه جزءًا من تاريخنا.
قالوا لي:
"أُلقي القبض عليه، وهو الآن في السجن."
وقفت مذهولًا. سألتهم عن التهمة.
كنت أظنها شيئًا من سوء الفهم أو حتى مؤامرة.
لكنهم قالوا لي الحقيقة كاملة… لا مجال للالتباس.
قالوا:
"اغتصب طفلةً وطفلًا… وقتلهما."
كأن السقف انهار فوق رأسي.
صديقنا، زميلنا، رفيق الطريق الطويل…
أهو هو؟
كيف؟
متى؟
ولِمَ؟
عرفت بعدها أن وضعه المادي ازداد سوءًا، وأن الفقر لم يطرق بابه فقط، بل اقتحمه بكل قسوته.
صار يتعاطى المخدرات، ويقيم في بيوت بايعات الخمر.
انفصل عن الواقع، عن نفسه، عن كل ما كنّا نظنه فيه من اتزان.
لكنني لم أتعاطف كما تعاطفت أنت.
أنا آسف…
كنت قاسيًا، وربما صادقًا أكثر من اللازم.
فمن يرتكب تلك الفعلة، لا تعود له مكانة بيننا.
أنا لا أنكر صداقتنا السابقة، ولا أنسى الأيام الجميلة…
لكن الجريمة كانت أكبر من الذاكرة، وأعمق من الحنين.
إن سكتنا الآن، وإن دافعنا عنه بدافع العِشرة، نكون قد اخترنا أن ننتمي إلى معسكر الفاسدين.
كنا نقول سابقًا إن القدر يختار أصدقاءنا،
لكن اليوم…
علينا أن نختار بأنفسنا، أن نُقرّر من يستحق البقاء، ومن لا.
هل تعرف ما يؤلمني أكثر؟
أن الجريمة لم تكن لحظة طيش، بل سلوكًا متراكمًا…
خروجًا تدريجيًا من الإنسان الذي كنّاه، إلى مسخٍ لا يشبهنا.
أنا لست ملاكًا، ولا أدّعي الطهر الكامل،
لكنني أرفض أن أكون شاهد زور، أو متعاطفًا أعمى مع من قتل البراءة بيديه.
صوتك كان يومًا أقوى من كل تردد.
فلا تخنْه الآن.
قلها كما كنت تقولها دائمًا: "الحق فوق كل اعتبار."