دوّى الصوت في أذني فجأة، كبرقٍ يمزّق سماءً ملبّدة منذ زمن: بكاءٌ أول لوليدٍ جديد، يقتحم عالمي بلا استئذان، فيملؤه دفئًا ودهشة، ويجتاح قلبي كما تجتاح الموجة شاطئًا عطِشًا. كانت لحظةٌ واحدة، لكنها كانت كافية لأن تمحو من روحي خمسة عشر عامًا من الانتظار الطويل، والرجاء الصامت، والدموع التي خبّأتها الجفون حتى لا تراها العيون.
لم يكن صوت بكاءٍ عادي، كان كأنه إعلان من السماء بأن الحلم الذي ظل معلقًا فوق رؤوسنا قد هبط أخيرًا إلى أرضنا. التفتُّ نحو الطبيب، وكنت أقرأ في ملامحه قبل أن ينطق أن الخبر سعيد، لكن لساني ظلّ متشبثًا بالانتظار حتى قالها: "الأم بخير… والجنين بخير". لم أستوعب الأمر كاملًا حتى أضاف بابتسامة أوسع: "ليس جنينًا واحدًا… بل توأم… وثالث في قلبكما هو الحلم الذي صبرتُما عليه حتى أثمر".
وهنا، انفجرت في داخلي موجة من الذكريات، وكأنني أستعيد في ثوانٍ كل ما مرّ. رأيت نفسي وزوجتي في عيادات الأطباء، نطرق كل باب ونبحث عن أمل ولو ضئيل، نحمل نتائج التحاليل التي تؤكد أننا بصحة جيدة، ومع ذلك نعود إلى البيت وأيدينا خاوية إلا من الدعاء. تذكرت ليالي الانتظار التي كانت أطول من أن تُحتمل، وأيام الصمت التي كانت أعمق من أن تُفسَّر.
ومع ذلك، لم يكن الانتظار وحده هو ما أثقل قلوبنا، بل قسوة الناس. تلك الهمسات التي كانت تصل إلينا محمولة على أجنحة المجالس، وكأن أرزاقنا ملكٌ لألسنتهم، وكأننا نحن من نتحكم في منح الحياة أو منعها. كلمات صغيرة، لكنها كانت كالملح على الجرح، خاصة على قلب زوجتي.
كانت هي الأكثر تعرضًا للسّهام المسمومة التي تخفي نفسها في كلمات المجاملة وصلة الرحم. نساءٌ يأتين بدعوى "اللمة" أو "التماسك الاجتماعي"، يقدمن القهوة في وضح النهار، لكنهن في الحقيقة يضعن في فنجانها جرعاتٍ من الإحباط والشك. لو لم يكن إيماننا بالله راسخًا، وصبرنا ممتدّ الجذور، لذابت علاقتنا منذ بواكير ارتباطنا.
لكننا تمسكنا، وعرفنا أن لله توقيتًا لا يخطئ، وأن الأقدار لا تتأخر ولا تتقدم لحظة عن موعدها. وكنت أؤمن أن كل تلك السنين كانت تمهيدًا لهذه اللحظة، وأن كل الدموع التي سكبت في الخفاء كانت تسقي بذرة الحلم حتى يكتمل.
واليوم، حين انفتح باب غرفة العمليات، كان الأمر أشبه بفتح باب الحياة من جديد. خرجت زوجتي بصحة وعافية، تحمل بين ذراعيها اثنين من أبنائي، بينما الثالث ينتظر في حضن الحلم أن يكبر معهم. كانوا ثلاثة أصوات صغيرة، لكنها كانت أقوى من كل أصوات الشك والهمس التي عرفناها.
كانوا برهانًا حيًا على أن الأمل لا يموت، وأن الصبر لا يضيع، وأن الله إذا وعد، أوفى.
والسلام على كل قلبٍ انتظر… ففرح.