قد يبدو الأمر بسيطاً في ظاهره، مجرد كلمة عابرة نقولها على عجل ونحن نغادر منازلنا أو نلتقي بأهلنا وجيراننا: صباح الخير. ولكن ما تحمله هذه العبارة الصغيرة من معانٍ أوسع بكثير مما نتخيل. فهي ليست مجرد تحية، بل رسالة دفء وطمأنينة، وأول خيط من خيوط المحبة التي تنسج يوماً مليئاً بالأمل والسكينة. حين نبدأ صباحنا بمصافحة الكلمات الطيبة فإننا لا نضيع وقتاً ولا نخسر جهداً، بل نكسب أرواحاً مشرقة وعلاقات إنسانية متينة، فما الذي يمنعنا أن نطلق هذه المبادرة وأن نحيي أسرنا وآباءنا وأمهاتنا وأجدادنا وأعمامنا وخالاتنا وجيراننا وأصدقاءنا؟ إنها عادة لا تكلف شيئاً، لكنها تمنحنا الكثير.
ومن يتأمل طبيعة الأحياء السكنية في كثير من المدن السودانية والعربية يجد أن الأسر غالباً ما تسكن متقاربة في مربعات أو نمرة واحدة، فالعم بجوار الخال، والجد قريب من الأحفاد، وأبناء العمومة متلاصقون في بيوت متجاورة. هذا التكوين الاجتماعي يمنح فرصة ذهبية لبناء شبكة تواصل قوية، لكنه في الوقت ذاته يشهد مفارقة مؤلمة، فبدلاً من أن يكون هذا القرب الجغرافي جسراً للتلاقي أصبح في كثير من الأحيان جداراً للعزلة والانغلاق. ترى الأسرة لا تزور أسرتها إلا لماماً، والابن لا يعرف عن أحوال أخيه إلا عند وقوع حادث جلل أو مصيبة تستدعي التجمع، وعندها فقط يهرع الجميع كما لو كانوا فرق إنقاذ جاءت لتطفئ حريقاً أو لتواسي في مأساة، أما في الأوقات العادية، حيث يكون الود والتواصل أيسر وأجمل، فإنهم يغيبون.
المصيبة ليست في غياب الكلمة الطيبة فحسب، بل في أن الأسر نفسها لا تشعر بحجم الخسارة إلا عندما يكتوي الجرح. حين يغيب أحدهم بالموت يكتشف الجميع أن سنوات مضت دون لقاء حقيقي، وحين يمرض الجد أو تتألم الجدة يدرك الأبناء والأحفاد أنهم لم يكونوا حاضرين كما ينبغي، وعندها فقط يظهر الأسى وتبدأ العبارات المكررة: ليتنا كنا أقرب، ليتنا زرناه أكثر، ليتنا سألنا عن أحواله. ولكن متى؟ بعد فوات الأوان. إنها كارثة صامتة تتسرب إلى أوصال المجتمع دون أن ننتبه، ليست كارثة طبيعية ولا حرباً، لكنها أخطر منهما لأنها تسرق روح الأسرة وتضعف نسيجها الداخلي.
ومن هنا يصبح من واجبنا أن نكسر هذا الجمود وأن نعيد الحياة إلى روابطنا الأسرية، فلا ننتظر المصائب كي تجمعنا، بل نبادر إلى قول: صباح الخير يا عمي، كيف حالك يا خالي، أسعد الله صباحك يا جدي، صباحك ورد يا جدتي الحنونة. هذه الكلمات، مهما بدت بسيطة، هي ماء يسقي شجرة الرحم التي إن جفت ضعفت أغصانها وتكسرت. العم يحتاج إلى من يقول له صباح الخير ليشعر أن مكانته محفوظة، والخال ينتظر لمسة وفاء من أبناء أخته، والجد يضيء قلبه بكلمة طيبة يسمعها من أحفاده، أما الجدة فهي المرآة التي تعكس حنان الأم وطيبة الأب، وهي تتوق لأن ترى الوجوه المبتسمة حولها فترد بابتسامة أعذب وأرحب.
وإن كان الانقطاع عن الأعمام والأخوال والأجداد خطراً، فإن الخطيئة الأكبر هي ترك الآباء والأمهات. كم من أبناء هجرتهم الحياة إلى صخب العمل أو تيه المدن فلم يعودوا يطرقون باب والديهم إلا نادراً، يظنون أن الحياة تجري بشكل طبيعي دونهم، بينما الحقيقة أن الحياة بلا والدين هي حياة منقوصة، زائفة، بلا دفء. الآباء والأمهات هم أصل الحكاية، وهم ملاذ الروح في الشدائد، وهم الدعاء الذي يرفع البلاء قبل أن ينزل، فكيف يمكن لابن أو ابنة أن يتجاوز عن هذه النعمة العظيمة؟ وكيف يعقل أن يترك الأبناء من كانوا سبب وجودهم؟
الانغلاق الأسري ليس مسألة شخصية فحسب، بل له انعكاسات اجتماعية خطيرة، فحين تضعف صلة الرحم يضعف التضامن الاجتماعي، وحين يغيب التواصل يسهل انتشار الفراغ النفسي والاغتراب الداخلي. المجتمعات التي تفقد تماسكها الأسري سرعان ما تفقد قدرتها على مواجهة التحديات الكبرى، وفي المقابل، حين تبنى الأسر على الترابط والتواصل فإنها تصبح حصناً منيعا، الكلمة الطيبة تصنع الود، والزيارة المتكررة تعزز الأمان، والتفقد الدوري يمنع الغربة، بل إن تعزيز الروابط الأسرية يساهم في الحد من مظاهر الانحراف الاجتماعي لأنه يخلق شبكة دعم معنوي ومادي تسند الفرد في ضعفه وتوجهه في حيرته.
وإحياء هذه الروح لا يتطلب مشاريع ضخمة ولا موارد مالية كبيرة، بل يكفي أن نبدأ بالخطوات الصغيرة؛ زيارة أسبوعية للوالدين أو الأجداد، اتصال هاتفي للاطمئنان على العم أو الخال، رسالة قصيرة تحمل دعاء أو تحية، دعوة عائلية لتناول وجبة مشتركة، جلسة مسائية لتجاذب أطراف الحديث في فناء المنزل. هذه المبادرات الصغيرة إن تكررت ستحدث فرقاً هائلاً، فهي بمثابة ماء المطر الذي يتساقط نقطة بعد أخرى حتى يملأ الجدول ويصير نهراً جارياً.
والمطلوب ليس مجرد تذكير عابر، بل إعادة بناء ثقافة كاملة، ثقافة ترى في صلة الرحم قيمة عليا، وفي الكلمة الطيبة صدقة دائمة، وفي زيارة الأقارب عبادة قبل أن تكون عادة. هذه الثقافة يجب أن تتجذر في وعينا الجمعي وأن نعلمها لأطفالنا منذ الصغر، فحين يرى الطفل والده يسلم على العم ويزور الجدة ويستمع إليها فإنه يتعلم عملياً أن الأسرة ليست مجرد أشخاص يعيشون متفرقين، بل هي كيان حي ينبض بالحب والعطاء، وحين يسمع كلمات الود صباحاً ومساءً فإنه يعتاد عليها حتى تصبح جزءاً من شخصيته.
وفي النهاية، ليس الحديث عن صباح الخير مجرد ترف لغوي، بل هو جوهر حياة، إنه نداء لإحياء المحبة التي تذبل وصوت يوقظ الضمائر من سباتها. إذا أردنا أن نكون أكثر جمالاً كبشر فعلينا أن نعيد هذه الجسور البسيطة التي تبني عالماً مليئاً بالسعادة، ولنبدأ من اليوم، لنمد أيدينا لأسرنا، لننظر في وجوههم بابتسامة، ولنقل لهم صباح الخير. فهذه الكلمة ليست مجرد بداية ليوم جديد، بل هي بداية لحياة أكثر دفئاً وتماسكاً.





































