في أقصى الريف، حيث الطرق الترابية تمتد كأنها أنين متصل، وتغفو القرى على وسادة الإهمال، خرج شابٌ ثلاثيني من منزله عند الفجر، يحمل جسدًا منهكًا، وروحًا مرهقة، في رحلةٍ نحو المدينة، بحثًا عن شفاء مؤجّل.
لم يكن شابًا عاديًا، بل كان واحدًا من أولئك الذين خلقوا ليقاوموا الألم بصمت. يده اليمنى مشلولة بالكامل، ومرض الصرع يسكنه كظلٍّ ثقيل لا يفارقه. اعتاد تناول أدويته كل صباح، لكنه في هذا اليوم، تركها وراءه، وكأنما عقد سلامًا داخليًا مع كل ما يؤلمه.
ألحّت عليه شقيقاته أن يرافقنه، توسّلن إليه بدموعٍ خفية أن لا يذهب وحده، لكنه رفض، لا عنادًا، بل يأسًا. كان صراخه في وجوههن ليس قسوة، بل صوت العجز حين يلبس ثوب الكبرياء. قال لهن بنبرةٍ حادة: "لا تُتعبوني أكثر... دعوني أذهب وحدي".
وحده الله كان يعلم ما يدور في صدره. لم يكن يريد أن يرى شقيقاته وجوهًا خائفة خلف نافذة العربة، ولا أن يحمّلهن عبء سقطاته المحتملة في الطريق.
وجد مركبةً وحيدة تقصّ الطريق نحو المدينة. جلس بصمتٍ في المقعد الخلفي، وكل ما فيه ينكمش.
لا طعام، لا دواء، لا رفيق، فقط جسدٌ يسير وعينان تحدقان في المجهول.
وعلى بعد ثلاثين كيلومترًا، هطلت السماء كأنها تبكي معه. المطر كان غزيرًا، والطرقات تحوّلت إلى طينٍ لزج يبتلع العجلات. توقفت المواصلات، وبدأ العابرون في التراجع، لكن الشاب ظلّ مكانه، يتلفّت كالغريب وسط ساحة مهجورة.
حتى السائق اضطر للتوقف، لا أحد يعرف إلى أين يتجه. الليل حلّ، والبرد بدأ ينخر العظام.
تحت سقف العربة المتعطّلة، قضى ليلته. العتمة كانت كثيفة، لكنّها لم تكن أظلم من وحدته.
عند بزوغ الفجر، تفتح أبواب السماء مرةً أخرى، لكن هذه المرة، لا بمطر، بل بكرمٍ لا يُنسى.
جاءهم رجل من أبناء المنطقة، يحمل في وجهه ملامح النخوة والدفء.
"يا أولاد، ما بصح تباتوا في الشارع..."، قالها بابتسامة حقيقية.
أخذهم إلى منزله المتواضع، كأنهم من أهله. ذبح لهم خروفًا، وأعدّ لهم فراشًا دافئًا، وفرش لهم قلبه قبل أن يفرش لهم الأرض.
نام الشاب تلك الليلة مطمئنًا، كأن القدر اعتذر له أخيرًا.
في القرية، كانت القلوب مشتعلة بالقلق. لم يعرف أحد أين ذهب، ولا أين بات، ولا هل تناول دواءه.
الهواتف ترن، والشبكات تقطع، والاحتمالات تتراقص في العقول كأشباح.
حتى جاءهم فجرٌ آخر ومعه خبر طيّب، من قريب تواصل مع سائق العربة، ليطمئنهم أن ابنهم بخير، فقط نام في منتصف الطريق، وحظي بكرم رجلٍ لا يعرفه لكنه احتضنه كما لو كان من دمه.
كم من غرباء هم أقرب إلينا من أقارب! وكم من أمطارٍ تأتي لتغسل الطريق، لكنها تفتح لنا بيوتًا لم نحلم بها!
ختامًا، السلام على أهلنا الطيبين، وعلى كل ذي حاجةٍ يكافح بصبر، وعلى أولئك الذين لا يخذلون الضيف حتى وإن جاءهم من قلب المطر.
كما نناشد كل أسرة: لا تتركوا أبناءكم من ذوي الحالات الخاصة وحدهم، فالعزلة قاتلة، ولو كان الجسد قويًا... فالروح أضعف مما نظن.