> (حين تكون الخطوة الأولى، نظرةٌ لا تُنسى...)
كانت دائمًا كملاكٍ يمشي بين الناس، تحيطها هالة من النقاء تمنحها مكانة لا تشبه أحدًا. لم يكن الأمر بحاجة لكلمات كثيرة، فرؤيتها الأولى كانت كافية لتمحو العالم من حولي، وتختصر الوجود كله في ملامحها. نظرت إليها كأنني أراها للمرة الأولى والأخيرة معًا، وكأن لا أحد قبلها، ولا أحد بعدها.
لم أكن الوحيد الذي يُبصر تفرّدها، فالجميع كان يردد اسمها في جلسات النوادي، وسهرات اللعب، وحديث الأصدقاء. كانت سيرتها العذبة تتناثر كالعطر في الهواء، حتى دون أن تحضر. وكأنها الغائبة الحاضرة دائمًا، التي لا تغيب عن القلوب ولو غابت عن العيون.
كنت أسمع أنها لا تخرج كثيرًا، وأنها لا تطأ عتبة الدار إلا في الضرورة القصوى، وإن خرجت، فبرفقة والدها وإخوتها. كنت أتساءل: هل يمكن أن أراها؟ مجرد رؤيتها كافية لتمنحني شيئًا من السلام، أو ربما من التعب الجميل.
ثم حدث ما يشبه المعجزة الصغيرة…
خرجت. نعم، خرجت، ومعها والدها وإخوتها وأخواتها. تتبعت خطواتها بخوفٍ وشغف، كأنني أطارد ضوءًا يتسلل من نافذة قلبٍ مغلق. اقتربت عيني من وجهها، رأيتها أخيرًا. كانت اللحظة أثقل من أن تُختزل في وصف، وأعمق من أن تشرحها اللغة.
لم تستطع ذاكرتي أن تلتقط ملامحها كاملة، كأن الجمال فيها كان متجاوزًا لفكرة الشكل. لم أحتفظ منها إلا بصورة شعرها المتدلّي إلى أسفل ظهرها، بلونه الأسود الفاحم، ولمعته التي تشبه الحبر حين ينسكب على صفحة بيضاء.
دخلت بعدها في صراعٍ مؤلمٍ مع نفسي. لم تكن مشاعري تائهة، بل كانت ثابتة في اتجاهٍ واحد: نحوها. كنت أطرح على ذاتي أسئلة لا تنتهي، بعضها لا إجابة له، وبعضها لا يحتاج لإجابة أصلًا. لم يكن أمامي إلا طريق واحد: المحاولة.
أنا لا أؤمن باليأس، ولا أستسلم للخيبة. بدأت أرسم خططي بدقة، كمن يخطّ طريقًا نحو وطن لا يعرف سواه.
قررت أن أقترب من أخيها، لا من باب التودد، بل كقناة شرعية للوصول. وتلك كانت أنجح فكرة، فالصداقة لا تبني الجسور وحدها، لكنها تفتح الباب لمن يجيد المرور من خلال التفاصيل.
نجحت. نعم، نجحت. دخلت عالمه بهدوء، عبر وسائل التواصل، حتى صار بيننا ودٌّ واحترام. ثم امتدت الصداقة لتشمل الأسرتين، وتبادلنا الزيارات، وأصبح اسمي يتردد في بيوتٍ لم تكن تعرفني من قبل.
لكنّي لم أكتفِ بذلك. صنعت لنفسي مكانة، ظهرتُ بمبادراتي، وقدّمت مواهبي، وكنت حريصًا على أن أكون دائمًا في صورة الرجل النبيل، المسؤول، القادر على أن يكون موضع ثقة، بل ورمزًا للاعتماد.
شيئًا فشيئًا، صرت حاضرًا في عين الجميع. إلا هي… لا زلت أقف على عتبة قلبها، أطرقها بلطف، وأنتظر أن تفتح.
كل شيء فعلته لم يكن استعراضًا، بل نداءً صادقًا، أنني هنا، موجود، أنني أستحق أن أكون جزءًا من قلبها.
ولا زالت ساعات الانتظار تمضي… وأنا، بكامل ما فيّ من صبر، أقف في نهايات الطريق، حيث لا شيء يُطمئن سوى الإيمان بأنّ القلب، وإن طال صمته، لا بد أن يجيب.