أصبحنا على أملٍ يلوح في الأفق، علّه يفتح لنا بابًا لحياةٍ جديدة، بعيدة عن لعلعة البنادق، وعن المشانق التي خنقت أحلام أجيال بأكملها. لقد أنهكتنا الحرب، فاستنزفت أعمارنا، وأذابت أجسادنا، وقطعت أوصال الوطن.
لم تكن خسائرنا أرقامًا في تقارير رسمية، بل كانت أرواحًا من دمنا، وأسماء من لحمنا ووجداننا؛ شبابًا في ريعان الأمل، وأطفالًا لم تكتمل ضحكاتهم، وأمهاتٍ حملن الحزن في قلوبهن حتى الرمق الأخير، وعلماءَ ودعاةً كانوا يحملون مشاعل النور، فأطفأها الرصاص.
نزح من نجا، وهاجر من استطاع، ولم يتبقَ في المكان إلا من يجر خلفه ذاكرة الأجداد، ويحمل في صدره بقايا حلم.
فهل ما زلنا نسير في الطريق القويم؟ أم أننا بحاجة إلى وقفةٍ مع أنفسنا، إلى مراجعة شاملة لما نؤمن به وما نسعى إليه؟
في داخلنا أسئلة ملحّة لا تهدأ، وكأنها صرخات قادمة من أعماق وعينا الغائب. نحاور ذواتنا كل ليلة، نوقظ فينا مشاعر دفنتها العتمة، ونحاول أن نتذكّر معنى أن نكون أبناء وطن، لا مجرّد تابعين في سردابٍ مظلم.
فهل نحتاج إلى وقت أطول لنستعيد وعينا الوطني؟ أم أن الوقت قد حان لنعيد بناء ما تهدّم، انطلاقًا من اللحظة التي توقف فيها كل شيء؟
لقد خلّدنا الحرب في ذاكرتنا، لا لأنها مجد، بل لأنها جرح غائر لا يُشفى، يحمل بين شقوقه أسماءً لأبناء هذا الوطن لم تكتمل حكاياتهم.
ولأنهم رحلوا قبل أن يقطفوا ثمار أحلامهم، باتت مسؤوليتنا مضاعفة.
نحن في حاجة ماسّة إلى مراجعة قراراتنا، إلى تقييم مواقفنا، إلى تفعيل وعينا بالقضايا الكبرى التي تعصف بالبلاد.
ليس كافيًا أن ننتقد، أو نكتفي بالندم. بل المطلوب هو أن نقف وقفة حقيقية مع أنفسنا؛ نفكك السياسات، ونفهم موقعنا منها، ونطرح سؤالًا واضحًا: لماذا أصبحنا خارج الدولة؟ خارج الدستور؟
لماذا لم نعد مرئيين في أي مشروع وطني؟ هل فشلنا، أم أُفشلنا عمداً؟
نحن لم نولد لنتبع، بل خُلقنا لنسهم، لنبادر، لنبني، ولنُحدث أثرًا حقيقيًا.
لدينا ما يكفي من الوعي والحلم والطاقة لنشارك في صياغة مستقبل الوطن، لا من موقع التفرّج، بل من قلب الفعل.
نطمح إلى دولة تتسع للجميع، تعترف بكل فرد، وتمنح المهمشين حقّهم في الحضور، لا كصدى، بل كصوتٍ حقيقي في صناعة القرار.
لقد حان الوقت لننهي حقبة التهميش، ونفتح أفقًا جديدًا يعيد توزيع العدالة بين الريف والمدينة، ويكسر احتكار السلطة والثروة.
لا نريد وطنًا يقسم أبناءه على أسس الجغرافيا أو الطبقة أو الولاء، بل نريد وطنًا لا يعترف بالتمييز، وطنًا يعيش فيه الجميع بكرامة متساوية.
نحن لا نطلب معجزة.
نحن فقط نطلب وطنًا يشبهنا، نحلم فيه دون خوف، ونعيش فيه دون قيد.