يا وردةً ما كان لغيرك أن يفتح نافذة الروح، أنت الخبر الذي أشرق في أيامي كفجرٍ طويل، والوجه الذي أضاء سماوات الزمان عشقًا لا ينطفئ كما تغني الطيور المهاجرة مع أول خريف. كنتِ وحدك القادرة على قراءة لغة العيون، وحدك من جعل للحياة عمرًا يستحق أن يُعاش، وهدًى نرتفع إليه كلما ضاق بنا الطريق.
قولي لي، كيف تبدو الأشياء الآن في عينيك؟ هل بقي في ذاكرتك متسع لنقش الأيام الجميلة التي حملتها الرياح بعيدًا حيث اللاوجود؟ أم أن النسيان قد غطى جسر المحطة العامة، ذلك الجسر الذي كان مسرح لقائنا الأول، حين تعانقت أنفاسنا كأنها وُلدت من روحك؟ يومها، شعرنا أننا أكبر من كل تباهٍ وأجمل من كل صورة متخيّلة، وكأننا في لحظةٍ استثنائية سمح لنا القدر أن نكون ما لم يكن لنا أن نكونه في أي وقت آخر.
لكن يا حبيبتي، لا أخفيك أنني أحمل أخبارًا ربما لن تعجبك. علامات المستقبل بدت وكأنها كُتبت نهايته قبل أوانه؛ بئر المياه الذي كان يسقي العطشى انهار، والمدارس التي علمتنا كيف نكتب أسماءنا أُغلقت أبوابها، وحتى المساجد لم يعد المصلون يرتادونها كما كانوا من قبل. النوادي تكاثرت، والمقاهي انتشرت، والناس انجذبوا إلى أماكن الضجيج واللهو، بينما بقيتُ أنا أبحث عن تلك اللحظة النادرة التي تمنح للوجود معناه.
أنا وحدي أدرك ماهية الأشياء المهدورة، وحدي أشعر أن العمر يتناقص كشمعة تنطفئ في صمت، وأن المواقف العظيمة والمعجزات باتت تتوارى خلف ستارٍ غليظ. وليت حالنا تُدركه معجزة، معجزة صغيرة فقط، تعيدنا إلى أنفسنا وتجمع ما تناثر من أشلاء الروح.
نعم، نحن بحاجة إلى معجزة، لا تلك التي تُروى في الكتب القديمة وحكايات الأولياء، بل معجزة يومية تُعيد ترتيب فوضى حياتنا، وتعيد إلينا يقيننا بأننا خُلقنا لشيء أكبر من هذا الخراب. هل كُتب علينا أن نستسلم لمصير الخراب ونرضى بالقهر كقدرٍ لا يُرد؟ لا أظن ذلك. فالإنسان حين يرفض أن يموت مهزومًا، يولد من جديد، حتى ولو كان محاصرًا بالخذلان.
قولي لي الآن، أيمكنك أن تعودي وسط هذا الركام وهذه الضوضاء؟ أيمكنك أن تحلمي بما كان يمكن أن نعيشه معًا؟ أم أنك صرت تظنين أننا نعيش في عوالم متوازية لا يلتقي فيها خطان؟ إنني ما زلت أؤمن أن العالم مهما بدا مختلفًا، فإنه يضيّق مساحاته ليلتقي العاشقان في نقطة واحدة، هي النقطة التي لا يملك أن يمحوها الزمان.
أنا في انتظار جوابك، جواب عاجل كإشراقة الفجر حين يبدد ليلًا طويلًا. نحتاج أن نقرر: إما أن نحلق معًا في ركب الحياة العصرية، نصارع تناقضاتها وننتزع منها ما يجعلنا نعيش بكرامة، أو نستعد لنتمدد في رحاب الدار الآخرة حيث لا فراق ولا ألم.
لقد كُتبت حياتنا معًا، ومن العبث أن تُغامر لتُعاش منفصلة. هذا هو واقعنا، وهذه ظروفنا الاستثنائية، ظروف لا تفرّق بيننا أي قوة أرضية مهما بلغت، لأن ما يجمعنا هو قوة الله تعالى، القوة الربانية التي تتجاوز ما يكتبه البشر وما يرسمونه من حدود. وما يقال عن فشل علاقتنا الاجتماعية لا يمكن أن يكون حقيقة، لأن الحقيقة الوحيدة هي أنكِ ما زلتِ نافذتي إلى الروح، وأنني ما زلتُ أومن أن هذا الحب لا يقف عند حدود الخوف أو الخراب.
إنني حين أستعرض ما آلت إليه أوضاعنا، أرى أن الخراب لم يقتصر على الحجر والشوارع المهجورة، بل امتد إلى الأرواح التي فقدت إيمانها بجدوى الأمل. كل شيء تغيّر: ملامح المدن، طقوس الحياة، وحتى نظرات الناس. لم يعد هناك ما يوحّدهم سوى البحث عن لقمة تسد الرمق أو ضحكة عابرة في مقهى مكتظ. لكنّي، رغم كل ذلك، أتمسك بكِ كخيط نجاة، لأنكِ لست مجرد شخص، بل معنى كامل للحياة، ورؤية أخرى للعالم.
الحب في زمن الخراب ليس ترفًا، بل هو مقاومة صامتة، هو إعلان أننا لم ننكسر بعد. وحين نحبّ، فإننا نؤكد أن العالم مهما انحنى أمام العواصف سيظل قابلًا للزراعة، وأن الروح قادرة على أن تُنبت وردة في قلب الركام. إن وجودك في حياتي يجعلني أرى أن الأمل ليس خيالًا، بل قوة خفية تتحدى الخراب.
لذلك، أكتب إليك لا كمن يستجدي عودة، بل كمن يؤمن أن اللقاء قدر، وأن المصائر مهما تفرقت فإنها تُجمع بقرار واحد من السماء. فما يجمعنا أكبر من الظروف، وأبقى من الخراب، وأقوى من كل ما يتربص بنا.
فلنمنح أنفسنا فرصة أخرى، لنفتح نافذة الروح على مصراعيها، ولنؤمن أن هذا الحب هو معجزتنا الصغيرة في مواجهة زمن بلا معجزات.