لم نكن سوى عمّالًا، وفلاحين، وملاك أراضٍ بسيطة. لم تكن لنا القدرة على التدخل في سياسات الدولة، لا بشكل مباشر ولا حتى غير مباشر. كنا نؤمن أن لكلٍ مجاله، ولكلٍ حدوده. لكن، حين تتحوّل الجهود الصادقة إلى مداخل للفساد، لا تعود المهنة عائقًا، ولا تقف أمامنا الأعراف أو التعليمات. ففي مواجهة الفساد، تسقط كل الحواجز.
لماذا لم تُوجد منصة حقيقية لمساءلة من يوزّعون الامتيازات الزراعية على أسس لا تمت بصلة لمصالح المنطقة، ولا حتى لمصلحة الولاية؟ بل وُزعت على أساس المحاباة والعلاقات الاجتماعية والمصالح الضيقة. تساءلنا كثيرًا: من يخدم هؤلاء؟ ولماذا يُمنحون ما لا يستحقون، بينما تُهمل أصوات الفاعلين الحقيقيين من أبناء الأرض؟
كُتب علينا أن نكون جزءًا من هذا المجتمع بكل ما يحمله من تعقيدات، لكننا لا نملك ترف الصمت أمام الخطأ، ولا نرضى بأن نكون شهود زور على تفشي الفساد وتغطيته. حين نلمح بوادر الانحراف وتبدأ دواليب التستر بالدوران، تتحرك فينا الذات باندفاع فطري، لا يتوقف أمام التهديد، ولا ينحني أمام الإغراء.
نعلم، كما يعلم الجميع، أن الفساد ليس حكرًا على وطننا؛ هو آفة عالمية. لكن الفارق أن هناك، في دول أخرى، من يضع قوانين رادعة تحاصر هذا الخطر. قوانين لا تعرف التهاون، وتحاسب كل من يثبت ضلوعه في فساد إداري، أخلاقي، أو مالي، أياً كانت درجته أو موقعه.
أما هنا، فالفساد يُوارى خلف أقنعة رسمية، وتُغلق الملفات ببرودٍ مريب، بفعل شخصيات نافذة تجيد التلاعب وتعرف كيف تحتمي بنفوذها داخل دولاب الدولة. نحن، كمزارعين وفلاحين، لا نملك ما يوازي قوتهم من نفوذ أو مال، لكننا نملك إرادة العمل المشترك، والحق في قول الحقيقة.
من هذا الوعي، ومن هذه الحاجة المُلحة، انطلقت المبادرات من هنا وهناك. بدأت صغيرة، لكنها وجدت صدى واسعًا لدى الناس، بل حتى لدى بعض المؤسسات الرسمية التي أوشكت على الانهيار تحت وطأة التجاهل والفساد. فكان أن وُلدت مفوضية تُعنى بمكافحة الفساد، بفضل ضغط شعبي ومبادرات صادقة أعلت صوت المحاسبة، ورفضت التواطؤ.