لا نسقط لنُهزم، بل لنتذكّر كيف نهضت أقدامنا الأولى في طين الحياة. لا نسقط عبثًا، فالسقوط ليس هزيمة إنْ خُتم بالوقوف. ننهض على أثر الجيل الأول، نقرأ ما تركوه على جدران المعاناة، ونستعيد منهم سرّ البقاء رغم الخراب.
الحياة ليست متاهة تأكل أعمارنا في صمت. بل امتحانٌ مفتوح الأسئلة، تتساقط فيه أوراق اليقين وتنتصب علامات الاستفهام. كل لحظة نعبرها، تُقص من أعمارنا، لكنها في الوقت ذاته تمنحنا وجهًا جديدًا نواجه به القادم.
طفولتنا لم تكن مترفة، لكنها كانت مليئة بما يكفي لنكبر بقلوب سليمة. بنينا صداقات حقيقية، ومررنا على عتبات الحب، لا مراهقة طائشة، بل عشقًا صادقًا استوى على نار الحلم والتحدي. أحببت فتاة كانت زهرة جيلنا، يتسابق إليها الجميع، وكان القدر معي. تُوّج الحب بزواجٍ لا يشبه أفراح الناس، بل يشبه القصائد القديمة حين يُقال الحب فيها لا لمجرد الزينة، بل لأنه مصير.
أنا ابن العمدة... ذاك الرجل الذي لم يحتج إلى عصا ليفرض وجوده. مهابة وجهه كانت تكفي. كان للناس مرفأ، وللأزمات باب نجاة. كبرت على كتفيه، وعلى عاتقي ظللت أحمل اسمه. خفت أن أكون سقطة في سجلّه الطويل من الهيبة، فكنت أحسب كل خطوة، لا لأنني بلا رغبات، بل لأني لا أريد أن أُخجّل الرجل الذي علّمني أن الرجال يوزنون بكلماتهم وأفعالهم، لا بشهاداتهم ولا بزخرف القول.
في الطريق، اختبرني الله بأصدقاء من ضوء، وآخرين من دخان. هناك من بنى معي عمرًا أول، وآخرون حاولوا نسف كل ما نزرعه، لأنهم لا يحتملون رؤية شيء جميل ينبت. تعلمت أن العلاقات لا تبنى على المصالح وحدها، فالمصلحة حين تفرغ، تنهار العلاقة مثل جدار من طين نُزِع منه الماء. العلاقات الحقيقية تقوم على الاحترام، والصدق، وتشارك الألم قبل الفرح.
ما نخسره في السياسة، أو المجتمع، أو حتى في رحلتنا الثقافية، ليس خسارة مطلقة. إنه درسٌ جديد، وإعادة ترتيب للمشهد. لن ننهار، حتى وإن تكسرنا، فالشيء المكسور قد لا يعود كما كان، لكنه حين يُرمم بنُدبِه، يكون أكثر صدقًا... أكثر إنسانية. الانكسارات لا تفضح، بل تُظهر من نحن حقًا.
فليغادر من لم يفهم الطريق. من لم يحتمل العتمة معنا، لا يليق به أن يرافقنا النور. فليذهب بسلام، وليبقَ لنا القلب مفتوحًا للذين يشبهوننا، الذين يعرفون أن النهوض شرف، وأن الصمت أحيانًا هو أوضح الكلمات.
السلام علينا حين سقطنا... والسلام علينا حين نهضنا من جديد.