لم أعرف يومًا ما معنى أن تكون لك أسرة. لا وجه أب يطالعك صباحًا، ولا صدر أم تضمك إليه حين تشتد عليك قسوة العالم. كنت طفلًا تائهًا، مشردًا، كغيري من الأطفال المنسيين داخل وطن لا يعترف بوجودنا. لا مأوى، لا قانون، لا عادات تضبط سلوكنا، فقط قانون الثقة بيننا، نحن الذين لفظتنا الحياة منذ نعومة أظافرنا. نعيش في كوخ ممزق، سقفه قماش مهترئ تنهشه الرياح وتغطيه طبقات من الغبار ودخان المصانع. نفرش الأرض بأجسادنا، نغطي بعضنا ببعض، ونحتمي بالدفء الآدمي حين يغيب الدفء الحقيقي. عشرات الأطفال يتشاركون نفس البؤس، ونفس الحلم المؤجل بأن يكون لنا يومًا وطن صغير يحمل اسم "بيت".
لم نكن نعرف طعم الجوع. لا لأن الطعام وفير، بل لأننا صنعنا لأنفسنا طرقًا بديلة للبقاء. كنا نذرع الطرقات حول المطاعم، نحوم كالأشباح بين نفاياتها، نلتقط ما تُرك عن قصد أو عن شفقة. بعض أصحاب المحال حفظوا وجوهنا، فصاروا يتركون لنا ما يسد الرمق، بلا كلمة ولا سؤال.
حين نسمع عن مناسبة لرجل أعمال أو مسؤول كبير، ننقسم إلى مجموعات ونتجه إلى هناك. لم يكن يهمّنا من هم، ولا كنا نكترث للشتائم التي تطاردنا. كنا نبتسم لها، ليس ضعفًا، بل لأننا تعلّمنا أن نواجه القسوة باللين، والصراخ بالصمت. رغم فوضانا، كنا نحمل بداخلنا بذرة من السلام.
في أحد الأيام، خرجتُ برفقة "رُبى"، طفلة مثلنا، مشردة مثلنا، نبحث عن دواء لأحد الأطفال المصابين بالصداع النصفي. لم يكن لدينا بطاقة علاج، ولا مال للطبيب. فقط حلم صغير بحبة دواء تخفف عنه الألم.
وبينما كنا نسير على الرصيف، تعثّرت "رُبى" وسقطت أرضًا، صارخة تطلب النجدة. كنت قد سبقتها بخطوات، لكنني عدت راكضًا مع أول صرخة. هناك، رأيت مشهدًا لن أنساه ما حييت.
امرأة شابة، بعينين خضراوين، وشعر ينسدل حتى أسفل ظهرها، نصفه مربوط بوشاح أبيض من الحرير. كانت تجثو إلى جانب "رُبى"، تفتح حقيبتها، وتجري لها إسعافات أولية بإتقان وهدوء. وقفتُ مذهولًا، وسألتها:
– من أنتِ؟ وماذا تفعلين؟ لكنها لم ترد، وكأنني لست هنا. كل تركيزها كان على الطفلة.
لم نكن نثق بأحد، فكل من جاء إلى الشارع، جاء لأنه لم يعد له أحد. لكنها لم تكن كغيرهم. أخرجت حبة حمراء وقالت إنها مسكن. أمرت "رُبى" بابتلاعها، ثم ربّتت على كتفي قائلة:
– خذ أختك واذهبا. واحتفظا بما تبقى من الحبوب، قد تحتاجونها لاحقًا. لم تسألنا عن أسمائنا، ولا عن أين نعيش. فقط نظرت إلينا نظرة دافئة، نظرة فيها من الحنان ما لم نجده في كل ما مضى من عمرنا. نظرة أقسم أنها كانت تشفي دون حاجة إلى دواء.
لكن فجأة، التفتت إلينا وسألت: – أين تعيشان؟ من أين أنتما؟ ترددتُ، لكن رُبى أجابت ببراءة الطفولة: – نحن نعيش هناك... في الكوخ قرب المصنع الكبير. حينها تجمّدت ملامح المرأة، وسألت برفق مشوب بدهشة: – هل اسمك "رُبى"؟ هزّت رُبى رأسها بالإيجاب، واستدارت المرأة، وسحبت كُم الطفلة ببطء. كانت هناك علامة، ندبة صغيرة على معصمها الأيسر، تشبه حرفًا منحوتًا في الجلد. شهقت المرأة، وتهامست: – مستحيل... هذه أختي. أختي التي ضاعت أثناء الحرب.
ثم تاه صوتها بين الذكرى والدمع:
"في الثمانينات، نزحنا من قريتنا بعد أن اجتاحت الحرب كل شيء. كانت "رُبى" طفلة لم تكمل عامها الثالث. وبين صراخ القذائف وهلع النزوح، اختفت. لم نترك مكانًا إلا وبحثنا فيه. كنا نظن أنها ماتت. لكن قلبي... قلبي لم يصدق ذلك يومًا."
أما رُبى، فقد نظرت إليها بذهول. لم تصدق شيئًا. بل سحبت يدها، وقالت بصوت مرتجف: – لو كنتِ أختي فعلًا، فلماذا تركتموني؟! لماذا لم تعودوا أبدًا؟ حاولت المرأة احتضانها، لكن رُبى تراجعت. ثم نظرت إليّ، وقالت: – لن أذهب معها. هي مثل البقية، تظهر فجأة وتختفي فجأة.
رحلت المرأة وهي تهمس: – سأعود. ولن أتركك هذه المرة. وبعد أيام، عادت. هذه المرة برفقة امرأة مسنّة، كانت الأم. احتضنت رُبى وبكتا طويلًا، وأقسمتا أنهن لم يتوقفن عن البحث يومًا.
سكنت الأم معنا فترة. كانت تطهو لنا، وتروي لنا الحكايات. أما "رُبى" بقيت على حالها، تتأرجح بين رغبة دفينة في التصديق وخوف غامض من أن يكون كل هذا حلمًا لا يلبث أن يتبخّر. كانت تنام على الأرض الباردة، وتحدّق في السقف المهترئ، وفي داخلها ألف سؤال. لم تقل شيئًا، ولم تَعِد بشيء، لكنها كذلك لم تطردهم من عالمها.
وفي أحد الصباحات، حين كانت أختها تجلس عند أطراف الزقاق تنتظر بصمت، اقتربت منها "رُبى" ببطء، وتوقفت أمامها لحظة، ثم مدت يدها الصغيرة، كأنما تسلم نفسها للقدر. لم يكن هناك كلام، فقط نظرات صامتة امتلأت بكل ما عجزت السنوات عن قوله
أخذتها يدها الصغيرة وذهبت معهما. إلى بيتٍ... نعم، بيت حقيقي، له باب يُغلق، وسقف لا يتسرب منه المطر.
أما أنا، فبقيت كما كنت... طفلًا بلا أسرة. لكنني، لأول مرة، شعرت أن العالم ليس كله ظلام. فثمة من يبحث، من ينتظر، من يحب دون شرط... حتى وسط الزحام، تمشي الملائكة، ونحن لا ندري.