دعينا نستريح عند تلك التلة، فقد أنهكتنا المسافة، وباتت الأرجل لا تقوى على حمل أجسادنا المتعبة. عشر ساعات من المشي المتواصل، والعيون لا ترى غير الطريق الممدود كالسراب، والأمل المعلق في نهاية خيط واهن: أن نجد الكاهن.
كنا نظن أن المسافة إليه لا تتجاوز خمسين كيلومترًا، فحملنا القليل من الزاد وكثيرًا من الحماس، لكن الحقيقة بدّلت كل شيء. المعلومة كانت خاطئة، والخطى تورطت في مغامرة لم نختبر قسوتها من قبل. الجوع ينهش الداخل بصمت، والبرد يزحف من أطراف الأصابع حتى نخاع العظام. أشعر أن قدميّ لم تعودا لي، تورمتا وثقلتا، والدنيا بدأت تدور من حولي كأنني على وشك السقوط.
أما أنتِ... فوجهك ما زال ساكنًا، وجسدك صامت لا يشكو. تُخفين شيئًا خلف صبرك، أم أن الصمت صار لغتك حين يعجز الجسد عن الشكوى؟
خذي هذا المعطف... “جاك” تركي الصنع، من صوف الخيل. دثّري به جسدك، فهو يمنح بعض الدفء. لمسته تشبه لمسة خيول الأناضول التي امتطاها أرطغرل بن سليمان شاه في فتوحات التاريخ. قطعة تحمل عبق الأساطير، كأنها جاءت من زمن لا يشبه زماننا.
أتعلمين؟ في هذه اللحظات الباردة، أتذكّر رحلات الصيد في طفولتنا البعيدة. كنا نخرج كل عام في نهاية الفصل الدراسي، برفقة ابن وزير الداخلية ووزير السياحة. كنت بارعًا في التصويب، لا أطلق رصاصة إلا وأصابت هدفها. أصطاد الأرانب من مسافات لا يتقنها كثيرون، وأحمل الطيور بيدي وكأنها هدايا للفرح.
في إحدى تلك الرحلات، ونحن على قمة جبل نبحث عن حطبٍ لإشعال النار، رأيت طائرًا غريبًا، لم أميز جنسه، ولا عرفت إن كان أكله حلالًا أم محرّمًا. لكن الجوع آنذاك كان قاتلًا، فقررت أن أرميه بحجر، وقد فعلت... أصبته وسقط. عدت به إليك، كنتِ هناك... جوهرة الدار، ورفيقة دربي، وزوجتي التي تعرف ما تُخفيه الشبهات.
حين رأيتِ الطائر، ترددتِ. لم تسألي كثيرًا، فقط نظرتِ إليّ تلك النظرة الصادقة، ثم قلتِ بهدوء: "إن اختلط الحلال بالحرام، فالترك أولى". وتركناه. لم نأكله رغم ما بنا من جوع. كنّا نُدرك، بفطرتنا، أن الجوع لا يبرر السقوط في الشبهة، وأن كرامة النفس أطهر من لقمة مشكوك في أصلها.
كم هي قاسية هذه الرحلة... وكم هي نبيلة تلك القيم التي تذكّرنا بها في خضم الجوع والتعب. في كل خطوة، هناك قصة تُحكى، وفي كل لحظة ضعف، تشرق فيك قوة تسندني.
عند هذه التلة، أدركت أن الجوع لا يُفقدنا إنسانيتنا، وأن الطريق، مهما طال، لا يُرهق القلوب التي تسير فيه معًا.