يا جميلة،
اليوم أشعر وكأننا نعيش في وطنٍ ليس هو وطننا، وكأن الأرض التي نخطو عليها قد تغيّرت ملامحها فجأة. اللحظة غريبة، يتداخل فيها الحلم بالواقع، فلا ندري: أفي بلادنا نحن، أم في مكانٍ بعيد بأجواء أوروبية باردة تفتح السماء فيه شبابيكها، وترسل المطر هدية متواصلة بلا انقطاع؟
أخبريني، هل ترين ما أراه؟ هل هذا وطننا حقًا أم أنني غارق في حلمٍ طويل؟ أما زلتِ أمامي كما أراك الآن؟ قولي كلمة تُثبت عقلي، أو لمسة تعيدني إلى يقين اللحظة، فأنا أخشى أن أستيقظ فأجد كل هذا خيالًا عابرًا.
لقد عشت هذا الجو ثلاثة أيام متتابعات، وأنا بين الدهشة والانبهار. جيراننا يشكون الحرّ والرياح والغبار، بينما نحن نغتسل بمطرٍ لا يتوقف، كأن السماء اختارتنا لنكون شهودًا على لوحة فريدة. لا تذهبي بخيالك بعيدًا؛ نحن نستحق هذه الأجواء، نحن هنا، وبيننا الليل الذي يغطي الكون بردائه، وفوقنا حبّ رحيم يحنو علينا.
أما كنتِ تظنين أننا سنسهر تحت نغمات المطر وهو يقرع السقوف بإصرار؟ ثلاثة أيام والسماء تنسكب علينا بلا كلل، حتى الشمس غابت عنّا أكثر من أسبوع، واختبأت النجوم خلف ستائر الغيم، ولم يبقَ سوى شعاع يتيم يزورنا منتصف النهار. ورغم ذلك، لم تنقطع الكهرباء كما خشينا، فبقينا نضيء ليالينا ونستمع إلى أنفاس المطر دون خوف.
لكن، يا وردتي، ورغم ما في المطر من جمال، فإن حاجتنا إليه ليست ترفًا. نحن نريده رحمةً لا عبئًا، حياةً لا عرقلة. الأسواق شبه مشلولة، وأكثر من سبعين بالمئة من التجار والعمّال غابوا عن أعمالهم، فضاقت البيوت بمن فيها، وعمّ الركود. المطر يهبنا الأمل، لكنه يختبر صبرنا أيضًا، كأن السماء تسقينا بيد، وتبتلينا باليد الأخرى.
الله وحده يعلم حالنا، ويمسك بزمام المطر وقلوبنا معًا.
يا جميلة، لا تظني أنني أنظر إلى المطر بعين واحدة. أنا أراه لوحة كاملة: فيه الحبّ والقلق، فيه السعادة والوجع، فيه الحلم والواقع. وأنتِ، في كل ذلك، زهرته التي تنبت وسط الغيم، صوته الذي يتردد مع وقع القطرات، ودفؤه الذي يذيب برودة الليالي.
فلنترك المطر يكتب قصته، ولندع السماء تقول ما شاءت. أما نحن، فحسبنا أن نكون معًا، نقتسم الليل، ونسمع وقع الغيم، ونعرف أن بيننا حبًّا لا تهزّه العواصف، ولا تطفئه السيول.