خاضت القوات المسلحة السودانية معركتها التي سمتها منذ اللحظة الأولى معركة الكرامة، مستخدمة تكتيكات عسكرية لا يدرك مغزاها إلا من تمرّس في ميادين التدريب داخل الكليات الحربية ومعسكرات صناعة الرجال. بدا المشهد في بدايات الحرب وكأن الجيش ضعيف، فترتيب الصفوف وعدد الجنود، بل وحتى العتاد العسكري، لم يكن بمستوى معركة بهذا الحجم. دبابات متهالكة، وأسلحة ثقيلة خرج بعضها عن الخدمة، الأمر الذي أوحى للرأي العام بأن قوات التمرد استولت على مقدرات الجيش.
لكن خلف هذا المشهد المربك كانت تدور معركة أعقد مما بدا على السطح. فالمليشيات المتمردة وجدت فرصة للتوسع والسيطرة على المدن والقرى، خاصة بعد ارتكابها واحدة من أبشع المجازر الإنسانية في تاريخ السودان بمدينة الجنينة وغرب دارفور، مجزرة تقشعر لها الأبدان وينحني لها جبين الإنسانية خجلاً. حربٌ أربكت حتى أكثر المحللين العسكريين والسياسيين خبرة، إذ لم يجدوا لها قالبًا يضعها في ميزان الحروب التقليدية التي تُحسم عادةً بالتفاوض. وحتى المبادرات الدولية التي طُرحت للتسوية، وُئدت في مهدها.
نحن – كسودانيين – عشنا حالة من العجز في فهم مسار الحرب. كنا نشاهد ضعف الجيش في بداياتها مقابل تمدد الجنجويد، لكننا كنا ندرك في قرارة أنفسنا أن هناك جنودًا وضباط صف يحملون إيمانًا عميقًا بالوطن، ويقاتلون بإرادة صلبة تكذّب كل التحليلات المضللة. هؤلاء أثبتوا أن السودان ما زال له أبناء مقاتلون، يقدّمون أرواحهم بعقيدة وطنية خالصة، يعملون ليل نهار من أجل استعادة وطنٍ طالته يد الغدر وأطماع الانتهازيين.
لقد كشفت الحرب زيف شعارات المليشيا، وأظهرت أن الدعم السريع لم يكن سوى أداة مدعومة من جهات سياسية مدنية، وحركات كفاح مسلح، ودول خارجية. كان الرهان أن تتحول هذه المليشيا إلى سلطة أمر واقع، بينما تتقمص بعض القوى السياسية دور الحاضنة السياسية لها، لتتربع على عرش الحكم. لكن الجيش وجد نفسه لا يواجه المتمردين وحدهم، بل يواجه أيضًا خيانة داخلية تمثلت في بعض الضباط والجنود الذين ارتدوا زي المؤسسة العسكرية بحثًا عن مصالحهم الخاصة لا عن مصلحة الوطن.
ومع ذلك، استطاعت القوات المسلحة أن تبدأ من الداخل: تطهير صفوفها من الخونة، واستعادة هيبتها، وكسب ثقة الشعب. وما إن تحقق ذلك حتى انضمت المقاومة الشعبية إلى جانبها، لتتحول الحرب إلى مرحلة جديدة لم تعد معركة بين جيش ومليشيا فحسب، بل حرب وجود وهوية، حرب بين من يحفظ سيادة السودان ومن يفرط فيها.
لقد أثبتت الوقائع أن المليشيا لا يمكن أن تحكم السودان، فلم تستطع في فترة سيطرتها على عدد من الولايات أن تقدم برنامج حكم أو مشروعًا وطنيًا يحظى بقبول الشعب. بل قوبلت بالرفض الشعبي والنزوح الجماعي من مناطق سيطرتها. في المقابل، أكدت القوات المسلحة أنها لم تساوم يومًا على سيادة الدولة، ولم تبع الوطن في سوق المصالح، وظلت تقاتل دفاعًا عن الكرامة والسيادة حتى النهاية.





































