لا شيء يملأ هذا المكان غير حضورك البهيّ، وابتسامتك التي تحمل في طياتها شيئًا من النبل وضياء الروح، ولا شيء يضاهي وجهك الذي يشرق كالفجر بعد ليل طويل. تفاصيلك المتفرّدة تأسرني في كل لحظة، وكأنكِ كتبتِ لتكوني مختلفة عن كل النساء. يلحّ السؤال في داخلي: هل كنتِ تعلمين أنني سأجيء؟ هل كان في قلبكِ استعداد لهذه اللحظة، أم أن لقاءنا مجرد مصادفة عابرة رتّبها الزمن في غفلة منا؟
غبتُ عنك أيامًا، وربما كنتُ أقصد الغياب لأختبر شوقي إليك، ولأدع لكِ مساحة تفتقدينني فيها، كما يفتقد القلب نبضه حين يسكن للحظة. لقد قال الشعراء إن البعاد يُشعل الحنين، وأنا أؤمن أن الشوق نار لا يطفئها سوى اللقاء.
ورغم الغياب، لم نكن يومًا عميان القلوب. نحن نشعر ونحسّ ونقدّر، ونعرف كيف نحترم آراء الآخرين، ونضعها في أعماقنا كما لو كانت جواهر لا تُمسّ. إن القدرة على الإصغاء، والتفكّر في ما يراه غيرنا، لا تأتي إلا من قلب حيّ، ونفس صافية لا تعرف الخداع. لذلك أسأل نفسي دائمًا: كيف يمكن لإنسان أن يفعل هذا إن لم يكن صادق الموقف، نقي السريرة، ثابت العاطفة؟
يا وردتي، دعيني أقولها بوضوح: لم أجاملك يومًا في مشاعري، ولم ألعب بقلبك كما يفعل من يتسلى بالقلوب. حياتنا لا نعيشها مرتين؛ هي واحدة، ومرة واحدة فقط. علينا أن نفهم هذه الحقيقة جيدًا، فالأعمار لا تُعاد، والزمن لا يرحم من يضيّعه. لهذا لم أركض خلف أهواء عابرة، ولم أسمح لرغبات النفس أن تضللني. كنتُ متأنّيًا، حذرًا، أعلم أن اختياري لشريك حياتي لا بد أن يكون عميقًا، ثابتًا، راسخًا، لا مجرّد نزوة عابرة أو انجذاب لحظة عاطفة.
كنت أؤمن في سرّي أنّ يومًا سيأتي نرتبط فيه برباط شرعي متين، رباط لا يكسره الزمن ولا تعبث به الصدف. كنت أرى في داخلي صورة لذلك المستقبل، كأنه مكتوب في سيرة سابقة لم نطّلع عليها. وقد يكون مقدّرًا أن نرتبط، كما يُقدَّر لفلان أن يتزوج فلانة. وقد يحدث العكس، فنغادر الحياة دون أن نحظى برباط. كل ذلك في النهاية قدرٌ مكتوب، نُدركه أو نتجاهله، لكنه لا يتبدّل.
وما أجمل أن نتأمل هذه الحقيقة: الأقدار لا تتغير برغباتنا. نحن نظن أننا نختار، لكن في الحقيقة نحن نتحرك في مسار مرسوم. نعم، نملك الإرادة، ونحاول، ونسعى، لكن فوق إرادتنا إرادة أعظم، وفوق قدرتنا قدرة عليا هي التي تقول للكائن كن فيكون.
دعيني أطرح عليك سؤالًا يا وردتي: هل نملك حقّ الاختيار الحقيقي؟ أحيانًا يملي القلب، وأحيانًا توجه الأسرة، وأحيانًا نُجبر على الاختيار تحت ضغط المجتمع. لكن حين نتأمل بعمق، نكتشف أن هناك قوة خفية، أكبر من كل ذلك، تحرّكنا كما يشاء القدر. فإذا كان المختار مكتوبًا لنا، ستسير الأمور كما يجب، وسنجد أنفسنا نصل إلى النقطة التي خُطّت لنا منذ الأزل. أما إذا لم يكن، فإن كل أبواب الدنيا ستغلق، مهما سعينا، ومهما حاولنا.
وهنا يكمن جوهر الحقيقة: ما يتحقق ليس إلا ما كُتب، وما لم يُكتب لن يكون. وكل ما يحدث خارج هذا السياق ليس إلا مغامرات دنيوية قصيرة الأجل، تجارب نمر بها ثم نتجاوزها، لكنها لا تشكّل المصير.
لقد أدركت من تجربتي معك أنّ الحب ليس مجرد شعور طارئ، بل هو امتحان صعب بين القلب والعقل والقدر. القلب يريد، والعقل يحسب، والقدر يحكم. وفي النهاية، ما يُكتب هو الذي يبقى، أما ما لم يُكتب فهو يتلاشى كزبد البحر.
أتعلمين يا وردتي؟ كثيرون يعتقدون أن الزواج مسألة اختيار حرّ، لكنّي أراه انعكاسًا لقسمة مكتوبة. قد يتقدم رجل لامرأة، فيُرفض، فيقال: "قسمة ونصيب". وقد يخطب شاب فتاة، فيوافق الأهل ويرفض القلب، أو يرفض الأهل ويوافق القلب، وفي النهاية لا يتم الأمر. لماذا؟ لأن ما لم يُكتب لن يتم، مهما تعددت المحاولات.
إننا نخدع أنفسنا حين نظن أننا نقرر مصائرنا بمحض إرادتنا. قد نقرر التفاصيل الصغيرة: متى نسافر؟ ماذا نلبس؟ كيف نخطط لأيامنا؟ لكن القرارات الكبرى، المصيرية، مثل من نحب، ومن نرتبط به، ومتى نموت… هذه كلها ليست بأيدينا. إنها مكتوبة بمداد لا يُمحى، منذ اللحظة الأولى لوجودنا.
لقد اخترت أن أصدق مشاعري تجاهك، وأن أحترم حضورك في حياتي كعلامة على أنني أسير في الطريق الصحيح. لم أتعجل في إعلانك شريكًا مفترضًا لحياتي، لأنني لم أرد أن يكون حبّي نزوة عابرة. كنتُ أؤمن أن الزمن وحده سيمتحن هذا الشعور، ويثبت لي أنّ ما بيننا ليس صدفة، بل قدر مرسوم.
كلما تذكرتُك، ازددت يقينًا أن اللقاء بيننا لم يكن عابرًا. ليس لأنني أحتاج إلى هذا الإيمان، بل لأن الأحداث من حولي تدفعني إلى تصديق أن شيئًا ما، أكبر من إرادتي وإرادتك، جمعنا. إنني أؤمن أن الحياة ليست سلسلة من المصادفات، بل شبكة من الأقدار التي تتشابك بخيوط خفية لا نراها.
وربما يسخر البعض من هذا الكلام، ويقولون: "أنتم من يصنع حياتكم". لكني أبتسم في داخلي، لأنني أعرف أنني صنعتُ الكثير في حياتي، خططتُ، سافرتُ، أنجزتُ، لكنني لم أستطع يومًا أن أقرر من أحب. الحب جاء دون استئذان، دون أن أطلبه، ودون أن أستعد له. جاء مثل المطر، يهطل متى شاء، وأين شاء، ولا يملك أحد أن يمنعه أو يستحضره في الوقت الذي يريد.
يا وردتي، إني أكتب لك هذه الكلمات وكأنني أضع اعترافًا بين يديك. اعترافٌ بأنني لم أهرب من مشاعري، ولم أتعجل في إعلانها، لكنني أيضًا لم أتجاهلها. كنتُ أتعامل معها كما يتعامل الزارع مع بذرة في تربة خصبة؛ يسقيها، ينتظرها، يصبر عليها، حتى تنمو وتزهر. فهل هناك أجمل من زهرة تنمو في صمت، لتفوح برائحتها حين يحين أوانها؟
إننا يا حبيبتي لا نعيش إلا مرة واحدة، ولا نُمنح فرصة ثانية لتجربة الحياة من جديد. لذلك أريد أن أعيشها بصدق، أن أحبك بصدق، أن أكون صريحًا مع نفسي ومعك. وأريدك أن تعلمي أنّني لا أرى في حبك نزوة ولا مغامرة عابرة، بل أراه قدرًا يمدّ يده إليّ، فأمسك به وأنا واثق أنني أمسك بخيط من السماء.





































