كُنّا نركضُ في العُمرِ، لا إليه.
نُراوغُ الزمنَ كما يُراوغُ طفلٌ المطرَ في أوّلِ الخريف؛
لا نكترثُ إن تساقطتِ الأيّامُ من حولنا،
ولا نعبأُ إن بلّلتنا الخسارات.
كأنّنا نعيشُ...
لكنّنا، في الحقيقة، كنّا نُؤجِّلُ الرّحيلَ،
نُؤجّلُ النّضجَ،
ونُؤجّلُ أنفسَنا.
كنّا أبناءَ الرّيح،
وأحفادَ الطّيش.
في قريتي،
حيث تتداخلُ الأزقّةُ بالخُرافة،
وتتشابكُ الحكاياتُ بنباتاتِ الصبّارِ المتربِّعةِ على أطرافِ الحقول،
كبرتُ كما يكبرُ الظِّلُّ على الحائطِ:
دون وجهٍ واضح،
أو ملامحَ مستقرّة.
لم يكنْ لنا وقتٌ نُضيِّعُهُ على التّفكير،
ولا حاجةٌ بنا إلى استشرافِ الغد،
لأنّ الغدَ، في عُرفنا،
كان دائمًا بعيدًا... وخفيفَ الوعد.
كنّا نَحيا على فرضيّاتٍ غريبة؛
نؤمنُ بأنّنا خالدون في طيشِنا،
لا نَرحل،
ولا نُمسكُ لحظةً واحدةً لنرى:
ما الذي ضاع؟
وما الذي يستحقُّ البقاء؟
نفرحُ لأقلِّ الأسباب،
وننفُرُ من بعضها كما لو كانتْ ذنبًا لا يُغتفر.
وكانت خصوماتُنا شَرِسةً،
تصلُ حدَّ الفُجورِ أحيانًا...
والقياداتُ الأهليّة،
التي يُفترضُ بها أن تكونَ حكيمة،
كانت تلوذُ بالصّمت.
– «شباب… سيكبرون»، هكذا كانوا يقولون.
لكنْ، لم يُخبرهم أحدٌ
أنّنا لا ننوي الكِبَر.
كنّا مثلَ جذوعٍ مكسورةٍ على ضفافِ النّهر،
نُقيمُ الولائمَ على ضياعِنا،
ونضحكُ من وجوهِنا التي لا تُشبهُنا.
ثمّ، حدث ما لم يكن بالحُسبان.
جاءت...
فتاةٌ لا تحملُ على كتفِها عباءةَ الحِكمة،
لكنّها تمشي بثقةِ مَن يعرفُ تمامًا إلى أين يتّجه.
بسيطةُ الملامح،
لكنّها عميقةٌ كنصوصِ الكتبِ المهجورة.
كانت تختلفُ... لا لأنّها أجمل – وإن كانت كذلك –
بل لأنّها تُفكِّرُ بصوتٍ هادئ،
وتتكلّمُ بمنطقٍ يُشبه المطرَ حين يُقنعُ التّرابَ أنَّ الوقتَ قد حانَ ليُزهِر.
جاءتْ بمبادرة،
كأنّها اقتراحٌ من القَدَر.
قالت لي:
– «لمَ لا تُفكّر في الارتباط؟
في أن يكونَ لحياتِك شكلٌ؟ عمقٌ؟
إنسانٌ آخر يُكملُك لا يُشبهك؟»
ضحكتُ،
ظننتُها تمزح...
لكنّها لم تكن.
حاصرتني بكلامٍ موزونٍ،
لا يُجادَل،
ولا يُؤجَّل.
كنتُ أتهرّب – كعادتي –
وهي كانت تحاصرني بابتسامتها،
وتلك الثقة النّادرة
التي جعلتني أتراجعُ عن كلّ ما كنتُ أظنّه "ثابتًا".
قبلتُ بعرضها،
أو ربّما... قبلتُ بها.
لا أدري أيّهما حدث أوّلًا،
لكنّي بدأتُ – للمرّة الأولى –
أعيش وكأنّني موجودٌ حقًّا.
لكنَّ القلبَ – كعادته –
لا يرضى بالنِّصف.
رأيتُها...
كانت مختلفة.
فتاةٌ من بناتِ قريتنا،
لكنّها تحملُ حُضورَ المدن،
وصمتَ الصّحراء.
تُشبهُ القصائدَ القديمة
التي لا تفهمُها تمامًا...
لكنّها تُحرّكُ فيك شيئًا لا يُسمّى.
عيناها كانتا نافذتين على عالمٍ آخر،
لا يُشبهُ قريتنا،
ولا صخبنا،
ولا... أنا.
وكان والدُها...
ضابطًا في الجيش.
السُّلطةُ تسبقُ اسمَه،
والخوفُ يتقدّمُ خُطاه.
ظننتُها معركةً خاسرة.
لكنّي خُضتُها.
لأنّي، حين أحببتُها،
لم يَعُد الطّيشُ يُغويني،
بل صار خوفي الوحيد:
أن أعودَ لذاتي القديمة.
هي الأخرى،
لم تكن هامشًا في الحكاية.
وقفت، قاومت، واجهت.
أقنعتْ أباها، وأهلَها،
وحتّى "العالمَ الآخر"، كما كنّا نُسمّيه في صبانا.
وقعت الحرب…
ثم انتهتْ بنصرٍ صغير،
لكنّه كان كلَّ ما نملك.
تحوّلت علاقتُنا إلى شيءٍ يُشبه الصّلاة،
شيءٍ لا يُقالُ بسهولة،
ولا يُمسُّ إلّا بأيدٍ طاهرة.
كوَّنّا أسرةً.
أسرةً تُشبهُ الأغاني القديمة
التي كانت تُبثّ من إذاعةِ القرية وقتَ المغرب.
أسرةٌ لا تملك كثيرًا،
لكنّها تفيضُ دفئًا.
وكأنّنا... وُلدنا من جديد.
في فوضى الأيّامِ التي سبقت هذا الميلادِ الثاني،
لم أكن أتصوّر أنّني سأكتبُ شيئًا كهذا،
أو أنّني سأروي حكايةً لا تنتهي بالخُذلان.
لكنّها الحياة...
حين تشاء، تَفعل.
وحين تمنحُك الفرصة، تُعيدُك إليك.