بعض المكالمات لا تأتي عبثًا، بل تحمل معها مفاتيح الزمن، وتفتح نوافذ القلب على أرواحٍ ما غابت يومًا.
قبل قليل، كانت نغمة الاتصال من صديقي العزيز ، المقيم بالمملكة العربية السعودية، فكانت المكالمة كأنها رجع صدى لصوتٍ قديم يسكن دواخلنا.
لم تكن مجرد مكالمةٍ عابرة، بل جلسة قلبية دافئة، تقاسمنا فيها رشفات من ذاكرة الأيام الخوالي، وتركنا الزمن يأخذنا نحو تلك اللحظات التي احتضنت ضحكاتنا، واحتفظت بأسمائنا على جدرانها.
استعدنا معًا تفاصيل من أيام الجامعة…
تلك الأيام التي لم تكن مجرد مرحلة دراسية، بل كانت حياة كاملة، نعيشها بكل الحواس. كنا نرسم أحلامنا على الورق، وننسج صداقاتنا من خيوط الصدق، ونعجن تعبنا بالضحك والسهر والتآزر.
وفي دهاليز الذكرى، حضر اسمٌ لا يُنسى… كان أحد زملاء الدراسة رفيق قسم الهندسة الكهربائية، ابن شرق النيل، ذو الروح الهادئة والوجه البشوش.
ذاك الذي كان إذا مرّ ترك فينا أثر الطمأنينة، وإذا تحدث شعّ من صوته صدق ونُبل.
لم يكن مجرد زميل دراسة، بل كان شقيق الروح، صديقًا لم تغب صورته رغم غياب السنوات، ولا خفتت نبرته في ذاكرتي، وإن طال البعد بيننا لسبعة أعوام أو يزيد.
ما بين ضحكات صديقي وذكريات زميلنا، شعرت أن الزمان قد توقّف قليلًا ليمنحنا فرصة العودة.
عدنا إلى الوراء، دون تعب أو تكلّف. كأن الأرواح تعرف الطريق دون خرائط، وكأن الذاكرة عندما تتكلم، تُنصت لها القلوب بكل خشوع.
يا لهذا الزمن الذي يجري بنا، ويمضي… لكنه لا يقدر على محو دفاتر الودّ الصادق.
لقد منحني صديقي، بهذه المكالمة البسيطة، لحظة إنسانية خالصة، أعادت إليّ نبض صداقاتٍ ظننت أن الحياة قد اختزنتها في رفوف النسيان.
من يظن أن في العمر متسعًا دائمًا للأصدقاء الجدد، لكنه لا يجد وقتًا لاستعادة الرفاق القدامى، لم يختبر دفء اللحظة حين تلتقي روحك بروح عزيزة من الماضي.
وصديقي ، بحضوره الدائم والنبيل، كان جسرًا ممتدًا بين الحاضر والماضي، وذكرى تمشي على قدمين لتقول لنا: لا أحد يغيب إن كان في القلب.
ربما لم نلتقِ منذ زمن، ولم تجمعنا مقاعد الجامعة منذ سنين، لكن هناك صداقات خُلقت لتبقى، لا يخذلها الغياب، ولا تهزمها المسافة.
فالأصدقاء الحقيقيون لا يطرقون الأبواب… إنهم يسكنونها.