يا ربيع، خُذ من أيامي وأعطِها لذات القلب الجميل،
ذاك القلب الذي لم يعرف غير الطاعة، ولم يخبُ فيه نور الإيمان يومًا.
كانت تمشي بين الناس بوجهٍ كأنّه الفجر،
تحمل في نظرتها أمل الغد، وفي صوتها دفء الأمهات.
هي الشعلة التي أنارت لنا طريق الحياة،
كيف يليق بها الآن أن تنكفئ على فراش الموت وتهزمها الأوجاع؟
أنا، كيف أكون بدونها؟
بل، من يُعلّم الصغار معنى الإنسان، إن غابت؟
هي التي علمتنا الكرم قبل أن نتعلّمه من الكتب،
غرست فينا الشهامة كما يُغرس الزيتون في الأرض الطيبة،
كانت موسوعة، تمشي على قدمين،
كلما نطقت، تناثرت منها الحكم،
وكأنما خلقها الله لتكون معلمة للقلوب والعقول معًا.
قالوا في الأثر:
"خذ الحكمة ممن تثق به، وممن إن حدثك عن الإنسانية، صدّقته قبل أن يكمل حديثه."
وهل هناك من هو أصدق منها؟ أو أحنّ؟ أو أطهر؟
أين أذهب في ليالي الشتاء الطويلة؟
من يمدّ لي الغطاء حين ترتجف ذاكرتي؟
من يقرأ لي سورة "يس" كما كانت تفعل؟
بل، ما قيمة ما تبقّى من عمري،
إن لم تكن "ملاك الروح وسيدة القلب" حاضرة في تفاصيله؟
إن لم ألمح ظلّها في الطرقات، أو أسمع صوتها في الممرات؟
منذ أن بدأت تلفظ أنفاسها، توقف شيء في داخلي عن الحياة،
كأن قلبي قُدّ من الحنين،
هي وحدها من بين مئات الوجوه،
بقيت محفورة في وجداني،
هي الوطن حين يتشظّى العالم،
هي السلام حين تضجّ الأرواح بالحرب.
كبرنا معًا، وعرفت العالم معها.
هي من أمسكت بيدي في أول الحكاية،
فكيف لي أن أُكملها وحدي؟
أين أخبئ هذه الذكريات؟
لا أحتمل دفن ألمي،
ولا أجد في الصمت عزاءً،
فالهمّ الذي يسكنني يحمل ملامحها،
والحزن الذي يعبرني، يشبه صوتها حين كانت تقول: "اصبر، فالله معك."
يا ربيع، إن استطعت، خذ من عمري ما شئت،
لكن لا تدع شمعتها تنطفئ…
فبها أضاءت الدنيا،
وبغيابها...
ينطفئ كل شيء.