لم يكن وقوفي تلك اللحظة مجرّد سكون جسد، بل كان ارتباك روح ضاعت بوصلتها وسط ضجيج الصمت. شعرت أنّني أقف في مهبّ المجهول، مشدوهًا، مشلول الإدراك، تطول لحظات الانتظار حتى تفقد معناها، ويفقد الزمان ملامحه. كل شيء حولي بدا كأنه تهاوى في غياهب العدم. غاب الناس، غابت الأضواء، وحتى الظلمة نفسها بدت غريبة عني... لم أعرفها، كما لو أنني فقدت آخر خيوط الانتماء لهذا العالم.
كان ذلك حلمًا؟ ربما، وربما كان كابوسًا طافحًا بالغرابة، لم أعرف له بابًا للخروج، ولا نافذة للاستيعاب. تقلبت في مكاني كمن يصارع بين الحياة واللاوعي، كأنني أفيق من غيبوبة طالت دهورًا. جسدي نفض غباره، لكنه لم يدرك بعدُ أنه عاد، وكل ما تملكني كان سؤالًا واحدًا: ماذا جرى لي؟
حاولت استرجاع ما يشبه الذكرى... أطياف بعيدة، مواقف ضبابية، وجوه مرت بي خلال منامي، كانت كأنها تُحاول أن توقظ شيئًا داخلي. لكنّها لحظات نسيانٍ أكثر منها تذكّر. كنت أعيش داخلي كمن يراقب نفسه من خارج الزمن، إلى أن وقع الصوت الذي ردّني إلى الحياة: صوتها هي.
ربتت على كتفي بوداعة، وقالت همسًا: "ما بك يا روحي؟" لم يكن سؤالًا عابرًا، كان طريقًا للرجوع، كان حياة تناديني لأعود. وحدها كانت الحاضرة، صوتها جاءني كالنور، كما لو أنّ العالم كله اختصر في تلك الهمسة.
أدركت حينها أنني ما زلت هنا، أنا هو أنا، زوجها، حبيبها، عشيقها وملاكيها، وهي نجم روحي الذي لا يخبو. طلبت منها أن تصبّ الماء البارد على رأسي، ففعلت دون تردّد. كان الماء بمثابة عودة الروح إلى الجسد، لحظة ولادة من جديد، وابتداء حياة مختلفة رغم بقاء الأشياء على حالها.
تلفّتُّ حولي، لم يتغير شيء، الأغراض في مكانها، التفاصيل هي نفسها، لكنها لم تعد كذلك في داخلي. شعرت أن القادم يحمل وجهًا آخر، وجهًا مشرقًا، ما دمت إلى جوارها. معها الحياة تصبح أكثر اكتمالًا، وقربها وطنٌ يسكن قلبي، وملاذ لا تقدر عليه كوابيس العالم.
ثم جاءت أمي، تحمل كوب القهوة التي اعتدت على شربها من يدها كل صباح. ذات النكهة، ذات الرائحة، وذات الدفء الذي لا يشبه غيره. جلست إلى جواري، تناولت القهوة بامتنان، وفي صدري رغبة أن أشاركها ما شعرت به... ما رأيت وما خفت. لكنني خشيت أن ألوّن لحظتها الجميلة بشيءٍ من غموضي، فصمتُّ، ودفنت القصة في أعماقي، كما يُدفن السر في قلب عاشق.
وعدتُ للحياة كأن شيئًا لم يحدث، لكنها لم تعد كما كانت... أنا لست كما كنت. لم تكن العودة من الغياب مجرد نهوضٍ من نوم، بل كانت يقظة من نوع مختلف، يقظة من الضياع، واحتضان لمعنى أن تكون حيًّا... بقلبٍ يُحب، وامرأة تحبك، وأم تصنع لك القهوة بطعم الحياة.