أغمضتُ عيني، ولم أفق…
كأنّني سقطت في نومٍ لا مواعيد له، ولا محطات.
حسبتُه عامًا، لكنه كان أكثر...
عامٌ لا تُقاس أيامه بالتقويم، بل ببطء الألم، وبرودة الوحدة، وثقل العزلة.
كان السكون يلفّني ككفنٍ ناعم.
الكون حولي اختفى، أو أنا اختفيت منه، لا فرق.
الحياة من حولي أصبحت رمادًا.
غادرها الشغف، وتلاشى حبّ العيش كما يتلاشى الدفء في حضن الصقيع.
ذاكرة الفرح مُسِحت، ومضى كلّ ما كان يُشبه الحياة.
قريتي؟
تركْتُها خاويةً إلا من الخوف.
المدارس تساقطت كأوراق الخريف تحت مدافع الغدر.
المنازل احترقت بنيران الكيماوي، وتحولت المساجد إلى هياكل من الخرسانة...
لا يُرفع فيها الأذان، بل تُهمس فيها أسماء الموتى.
نجوتُ بأعجوبة...
تسللتُ تحت جنح الليل إلى مغارةٍ أعرفها منذ الطفولة،
كانت يومًا ملاذًا للصغار في لعبهم...
صارت اليوم مهربًا من موتٍ لا يعرف الرحمة.
دخلتُها، وسلّمتُ نفسي للنوم...
نمتُ، كما ينام الجسد في قبره،
وغفوتُ على صوت الحنين.
حتى جاء ذلك الصوت...
صوتها.
بعد ستين عامًا من الصمت، جاءني كما تأتي النجاة: همسًا.
تسرّب إلى أذني كضوءٍ خافت يتسلل عبر شقٍ في جدار القلب.
كان وحده ما بقي لي من الحياة القديمة.
ذاكرتي اختفت... لكن صوتها ظلّ حيًا،
ربما لأنها كانت الحياة ذاتها.
قالت:
"أنا... من أحبّتْك حين كان الحبّ جريمة،
أنا من وقفتُ في وجه الريح، في وجه أهلي، في وجه العالم لأجلك.
أنا من نُفِيتُ من القرية، وعدتُ فقط حين لم يبقَ أحد."
قالت، وكان الظلام كثيفًا،
كأنّ الليل نفسه انكمش حولنا ليصغي.
كنا نحتاج إلى نور، لا ليكشف الطريق...
بل ليوقظ الأمل.
ثم وضعت يدها على صدري، وقالت:
"ربما تسأل كيف وجدتُك...
لا تسأل.
قلبي هو من دلّني إليك.
حين فقدتَ بصرك، انطفأت الحياة من حولك.
لكنني كنت أراك دومًا بقلبك...
وأنا جئتُ إلى هنا بقلبٍ فقط، لا عينين، لا خريطة، لا دليل.
قادتني نبضاتي، ووصلت...
كي نكمل معًا ما تبقّى."
لم أمهلها لتكمل...
كيف أقدر؟
كلماتها كانت كماءٍ يسقي جذورًا كدتُ أنساها،
صوتها يعيد لي ملامحي.
أمسكتُ يدها، قلت:
"تعالي...
لنسير على درب العشق حتى آخر أنفاسنا،
فلعلّ الحياة تبدأ من حيث نظن أنها انتهت."