نعيش في صمتٍ مُعلَن، نتظاهر بالقوة ونحن نكابر على اللاشيء، نركب موجة الزمن بلا مجاديف، مجرد أسرة ضئيلة بلا جذور، بلا هُوية تُشعرك بأنك موجود. يا صديقي الجديد، وجدنا أنفسنا محاصرين في كوخٍ صغير وسط امتداد شاسع من الأرض التي كانت يوماً مزرعةً تابعةً لشركة حكومية، كنا هناك كأننا قطع شطرنج على رقعة مصيرٍ مجهول.
مع مرور الأيام، وُزع هذا البستانُ إلى قطعٍ متفرقة، وأخرجونا بالقوة من مأوانا الصغير، فتمزقنا في الأسواق الكبرى التي لا تعرف الرحمة، في سوق كبير كبراري باريس، لكن لا هواء حياة يعبق بين مبانيها المُشيدة جزئيًا، مبانٍ رثة تتساقط منها أحلامنا مع كل سقطة طوبة.
لم نُرزق بأكثر من أبٍ وابنٍ وزوجةٍ ثانية، كنا مثل ظلٍ لا يُلاحَظ، بل وكأننا في انتظارٍ أبدي، عشنا هناك خمسين عامًا وأكثر، كما أخبرني الوالد، الذي وُلد في نفس الكوخ ولم يعرف أصل نفسه، ولا من أين جاء، وكأن جذوره قد نُسيت في غياهب الزمان.
في هذا العالم، لا وجود لعلاقات، ولا فرصة للعمل تُحفظ لمن يعيش بين الأطلال، ولا مكان للمشرد بين أهل المدينة. حتى المناسبات الدينية، التي تفيض بالبهجة والأنس عند الآخرين، كانت بالنسبة لنا مجرد طقوسٍ عابرة، مثل نسيمٍ يمر دون أن يلامسنا، أيامٌ تمضي بلا أثر في روحٍ متعبة.
نحن نؤمن بالقدر، ونقر بأن الأرزاق مقسمة، وأن المسلمات لا تُشكك. نكدح ونكدح، ونعلم أن ما كُتب لنا لا يُبدل، فلا داعي للاستعجال أو التسرع في دروب الكسب. من ينسى أن الحياة قد سُطرت منذ الصرخة الأولى التي خرجت منا؟ حياة لا تظلم ولا تميز، لكن أحيانًا تكون قاسية بلا هوادة.
الآن، نشاهد من يهرولون نحو الثراء وكأنها لعبة سهلة، بلا تخطيط أو تأني، يتهافتون على قائمة الأغنياء، معتقدين أن الوصول إليها مجرد حظ عابر. أيمكن هذا؟ العالم المتقدم الذي نراه اليوم لم يُبنَ صدفةً أو ضربة حظ، بل عبر تعب وجهود من وهبوا أرواحهم لبناء الحضارة، ومشوا بخطى ثابتة، مزودين أنفسهم بنظريات وعلم، صقلوا عقبات النجاح حتى تحقق الحلم الذي نفتخر به.
هذه هي قصتنا: صمتٌ عميق، انتظارٌ طويل، رغبةٌ صامتة في أن تشرق شمسنا، في أن نحظى بقدرٍ من الحياة تليق بإنسانيتنا. قصة من يعانون في الظل، ويؤمنون أن غدًا لا بد أن يفتح لهم أبوابًا جديدة.