سيرة لحظةٍ لا تُنسى
ليس كل احتفالٍ يُشبه الآخر، وليس كل ميلادٍ مجرّد رقمٍ يضاف إلى رصيد العمر.
فهناك محطات في حياتنا لا تُقاس بالأيام، بل تُقاس بما تختزنه من حضورٍ إنساني، ووهجٍ وجداني، وعطر ذاكرةٍ يتسلّل من الشقوق القديمة في القلب ليُنعش الروح، ويوقظ فيها ما خفُت من نبض.
في هذا العام، لم يكن عيد ميلادي كما عرفته من قبل.
كنت دائمًا أُحييه في الغربة، محاطًا بمظاهر احتفال قد تبدو لغيري بهجةً، لكنها كانت بالنسبة لي مجرد تقليد رتيب لا يحمل طعم الوطن، ولا صدى الألفة.
أكثر من سبعةٍ وثلاثين عامًا عشتها بعيدًا عن تربتي الأولى، عن شوارع الحيّ، عن دفء الجيران، عن لُغة الأم حين تُناديني باسمي، وعن لُغة الونس حين تتلاقى الضحكات في المجالس العامرة بالحكايات.
وفي كل عامٍ، كنت أحتفل بلا روح.
حفلة صغيرة في مقهى مع زملاء العمل، قطعة كعك وكلمات مجاملة، وربما أغنية تُبثّ من هاتفٍ نقال، ثم ينتهي كل شيء.
لكني كنت أعي تمامًا أنني لا أبحث عن احتفالٍ كهذا.
كنت أبحث عن "لمة" تُشبه الطفولة، عن "ونسة" تشبه الضحكة الأولى، عن وجوهٍ مرّت معي في فصول العمر المتعددة، من طين الطفولة إلى رائحة الكتب في المدارس، ومن ضجيج الحيّ إلى صمت الغربة.
وفي هذا العام…
شاءت الأقدار أن أعود، ولو مؤقتًا، إلى حضن الوطن، وكان لا بد من لحظة تُعيد لي ذاتي التي بعثرتها المنافي.
فكان القرار: سأحتفل بعيد ميلادي، ولكن على طريقتي.
طريقة تُعيد ترتيب الذاكرة، وتفتح نوافذ القلب على ضوء الوجوه التي أحببت، ولم أرها منذ دهور.
لكني لم أكن وحدي في هذا القرار…
كانت هي، كما دائمًا، أمامي، إلى جانبي، خلفي، وداخلي…
هي التي حملت عني متاعب الحياة، وكانت الصوت الذي يُرمم صمتي حين أتعثر بالكلمات.
زوجتي الحبيبة، رفيقة الدرب، ومكملة ديني، قرّرت أن تجعل من هذا اليوم محطة استثنائية لا تُنسى.
رتّبت كل شيء بهدوئها الجميل، بلمستها التي لا تُشبه أحدًا.
اختارت ضفة نهرٍ هادئة، غير بعيدة عن منطقتنا، مكانًا يحمل من السكينة بقدر ما يحمل من الشجن.
وهناك…
توافد الأحبة: الأهل، والأصدقاء، الجيران، الأبناء، بل حتى الأحفاد الذين رأيت في أعينهم وجهي وأنا طفل.
كانت الجلسة على شرف هذا اليوم مليئة بالمواقف والعِبر، بالتأملات، بالأحاديث التي تعيد تشكيل الزمن.
تذكّرنا أيام المدرسة، قصص الحيّ، كيف كنّا نلعب في الأزقة الطينية، نركض تحت المطر، نُعدّ طائرات ورقية من ورق الدفاتر القديمة، ونعود إلى بيوتنا نضحك حتى نتعب.
استعدنا ملامح من رحلات العمل والدراسة، من لحظات الجد والمزاح، من زوايا الأحياء القديمة التي لا تزال تسكننا وإن تغيّرت معالمها.
ربما كان عيد ميلادي هو العنوان الظاهر، لكن الحقيقة أن ما جرى كان احتفالًا بالحياة نفسها.
كان احتفالًا بقدرتنا على الحب، على الصمود، على تذكّر ما يربطنا ببعض، في زمنٍ تمزّقت فيه البلاد، وتفرّقت فيه القلوب.
رغم الحرب، ورغم الوجع، كان ثمة إصرارٌ عجيب على أن نحيا، أن نُحب، أن نُضيء شمعةً في قلب الظلام.
ولم يكن الحضور مجرد حضور جسدي، بل كان نوعًا من العودة…
العودة إلى الذات، إلى المعنى، إلى الروح.
ولم تكن الهدية التي قدّمتها لي زوجتي مجرد تنظيم حفل، بل كانت أكبر من ذلك.
كانت تقول لي، دون أن تتكلم:
"ها نحن هنا… معك… لا تزال الحياة تستحق أن تُحتفل بها، لأنك فيها، ولأننا معك."
ساعات قليلة على ضفة نهر…
لكنها ستبقى شاهدة على أعظم لحظة في عمري.
لحظة اجتمع فيها من أحب، في زمانٍ ومكانٍ لا يتكرران.
لحظة أعادت لي الإيمان بأن العائلة وطن، وأن الحب مأوى، وأن الأصدقاء عطر لا يزول.
أجل…
هكذا أريد أن أحتفل بميلادي، كل عام…
لا بكعكة، ولا بزينة، ولا بأغنية تُبثّ من جهاز…
بل بقلوبٍ حولي، ووجوهٍ أعرفها جيدًا،
وبعطر امرأةٍ اختصرت في حضورها كل أفراح العالم.