حين كنتُ تايهًا في بحور الغرام...
ذات مساء، كأنفاس الليل الأولى، خرجتُ أتنفّس قليلاً. كان الجوُّ ناعمًا، كأنّ النسيم خرج لتوّه من حضن السماء. وقفتُ عند شرفة الفندق الذي أنزل فيه، أستنشق هواءً نقيًّا يداوي التعب المتراكم في صدري.
رنّ الهاتف. تناولته وكأنني كنت على موعدٍ مع هذه المكالمة تحديدًا.
"ألو..."، قلتها بنبرةٍ مبلّلة بالشجن، كما لو كنتُ أفتح بها بابًا بين قلبي والعالم.
وجاء صوتها... ذات الكلمة، وذات النبرة، لكنّها لم تكن مجرد صوت، بل حياةٌ كاملة تسلّلت إلى أذني. كانت إعلان ولادةٍ جديدة لرجلٍ فقد الحياة، فعاد إليها بنُسخةٍ أكثر رهافة.
نحن قومٌ بسطاء... تسعدنا التفاصيل الصغيرة، وتغضبنا التفاهات كذلك.
لا نُجيد المواربة، ولا نحترف التجمُّل.
الحياة لدينا ليست أكثر من قصة حبٍّ على جبين العشاق، أولئك الذين يموتون حبًّا ويُبعثون عشقًا.
صرنا نُشبه أوراق الخريف؛ لا جهة للثبات، لولا أولئك الذين نحبّهم.
هم وحدهم من يُضيئون الدرب، ويرسمون خارطة الأمل على جدران الأيام المقبلة.
تعلمتُ أن العشّاق وحدهم من يصنعون المجد.
لا المجد المصنوع من الذهب والبارود، بل ذلك الذي يُبنى من الحُلم والمحبّة والمشاركة، ويسيرون به معًا نحو الأعالي.
أنا ابن الريف العظيم، تشكّل وعيي على مبادئ الأجداد، ونهلتُ من ينابيع مدينةٍ تعرف طريق النور.
كانت بداياتي في مسيد الشيخ البرعي، حيثُ الكلمة دعاء، والحرف مئذنة، والعلم زاد الروح.
لكن ما حمله صوتها تلك الليلة لم يكن عاديًّا؛ كان حياةً جديدة كُتبت لي،
لا تشبه حياةً سابقة، ولا تشبه هذا الحاضر الذي نعيشه بلا نبض.
هي الأيام، بل هي الحياة نفسها.
فلنُعلِنها صريحةً لا لبس فيها:
الحُبُّ حلال، والحياة بدونه حرام.
فليُبارك الجميع أولئك العشاق الذين حافظوا على علاقتهم رغم عواصف الحياة،
علاقة يملؤها الفرح، وتُزهِر بالصدق، وتتزيّن بالجنون الجميل.
هنا، لا مكان لغير الحب.
هنا، العشق قانون، والتمرد على الكراهية فريضة.
كفى ما ضحّى عنترة، وكفى ما كتمه من سبقوه من نسل العاشقين.