كنتُ أنام مبكرًا، لا لأن النوم كان يغريني، بل لأن وعد الاستيقاظ باكرًا كان يملأني بالأمل. أملٌ بأن أركض في صباحٍ جديد مع أصدقائي، نملأ الحي صخبًا وفرحًا وضجيجًا بريئًا. كانت طفولتنا تدور حول لعبة، ونادٍ، وسهرة تمتد حتى منتصف الليل... وكأننا كنا نطارد الفرح في كل زاوية من زوايا الحياة.
كنّا نحن "شباب المجموعة الثابتة" كما يحلو لأهل القرية تسميتنا، نُشكّل حضورًا لا يُغيب، نلتقي في كل مساء، نعيد ترتيب أحاديثنا وننسج من السمر خيوطًا من الألفة لا تنقطع. لم تكن تلك مجرّد أيام، بل كانت عمرًا نخبّئه في قلوبنا، نحمله معنا كتميمة ضد الجفاء.
مرت السنون، لكننا لم نفقد تماسكنا. لم نترك اللعب، بل منحناه ملامح جديدة، تتسق مع أعمارنا المتقدمة. شيّدنا ناديًا صغيرًا، يفتح أبوابه عصرًا لمراجعة دروس المدرسة، ويُضيء ليلنا بالسهر والمرح. لم تكن لدينا شاشات ولا كهرباء في بيوتنا، لكن المولد الكهربائي في النادي كان يكفي ليحمل إلينا العالم، ويزرع فينا دهشة الأخبار وشغف الصور المتحرّكة.
من السابعة إلى العاشرة مساءً، كنا نعيش ذروة حياتنا. ثلاث ساعات تكفي لنتخلّص من ضغوط اليوم، لنضحك من القلب، لنسمع همسات الجيران، لنتبادل الدعوات، ولنعرف ما يجري في البيوت قبل أن يُعلَن في المساجد. كانت أخبار الزواج، والوفاة، والسفر، وحتى الولادات، تُروى في ركن من أركان النادي... وكأنّ الحياة كلها تمرّ عبر هذا الباب الصغير.
ثم جاء الرحيل...
غادرنا القرية واحدًا تلو الآخر. حملتنا رياح التعليم، ودروب العمل، إلى جهات لم نكن نعرفها. طالت الغيبة، وانقطع الخيط السري الذي كان يصلنا بأمكنة البهجة. بعد التخرّج، وجدت نفسي في شركة تعمل في مجال الذهب، على أطراف الصحراء، خارج المدينة وخارج الحنين وخارج كل ما يشبهني.
هناك، لا مجال للحديث عن اللعب أو الأنس. كل شيء يُدار بصرامة، كل دقيقة محسوبة. المستثمر أجنبي، لا يبتسم كثيرًا، ولا يُجيد الحديث عن الطفولة أو النوادي الصغيرة. لا أحد يجرؤ على العبث بالوقت، ولا حتى بالتفكير فيه. بعد انتهاء الدوام، ينسحب الجميع إلى غرف الاستراحة، مهدودين من التعب، كأنهم موتى لا ينهضهم إلا صوت منبه قاسٍ يقول: "كفى نومًا، القروش تنتظرك!"
في تلك العزلة، لم نعد نعرف الأخبار إلا متأخرين، لم نعد نضحك إلا نادرًا، ولم نعد نلعب على الإطلاق. أغلقنا هواتفنا، لا لأنها لم تعد تصل، بل لأننا لم نعد نحن.
كبرنا... نعم، لكننا في لحظة ما، حين نام الجميع، وبقيت أنوار النادي مطفأة، أدركنا كم كنا أحياء هناك، وكم صرنا أشباحًا هنا.





































