أصبحنا كمن يقف على حافة حفرة من لهب، كل نفس نأخذه يحمل معه خوفًا من أن ننهار إلى القاع. الحياة لم تعد رحيمة، بل صارت امتحانًا قاسيًا يفتك بالآباء والأبناء معًا. كنا بحاجة إلى من يرعانا، إلى من يمد لنا يد العون ويسأل عن أحوالنا، لكننا لم نجد أحدًا. وسط هذا الصخب لم نسأل حتى عن معاناة أطفالنا، الذين دفعوا ثمن عجزنا وقسوة الظروف.
أطفالٌ في عمر الزهور يقضون أيامهم بين الشوارع المزدحمة، يتنقلون بين ضجيج مركبات المواصلات وأصوات البضائع في الأسواق، يبحثون عن مأوى يحميهم من برد الليل أو عن لقمة يسدون بها رمقهم. ما أصعب أن ترى طفلاً بملامح بريئة يتكئ على الجوع بدل أن يتكئ على حضن أمّ أو رعاية أب.
لقد انهار الوضع الأسري والاقتصادي حتى صار شبيهًا بكائن يترنح بحثًا عن جرعة أوكسجين تعيده إلى الحياة. الآباء أنهكتهم الحاجة، والأبناء صاروا بلا سند. في قلب هذه الفوضى، تنكسر الروابط الأسرية وتذوب قيم التربية شيئًا فشيئًا. كثير من هؤلاء الأطفال تركوا الدراسة منذ مراحلها الأولى، بعضهم لم يتجاوز الصفوف الابتدائية، فاضطروا لمواجهة صعاب الحياة في وقت كان يفترض أن ينشغلوا فيه باللعب والتعلّم.
إنها مرحلة خطيرة، خاصة في سن المراهقة. ففي هذا العمر يحتاج الطفل إلى من يرشده إلى الطريق القويم، إلى من يعلمه أن يكون إنسانًا يعيش بسلام، وأن ينشأ على الأخلاق والمسؤولية. لكن هؤلاء الأطفال تُركوا وحدهم، يقاومون الرياح العاتية من غير بوصلة، فكان ضياعهم نتيجة طبيعية لعالمٍ لم يمنحهم فرصة عادلة.
وذات مساء، حين كان الجو شديد البرودة لا يُحتمل، خرجتُ أبحث عن دواء من إحدى الصيدليات القريبة من مسكننا. كان مسكنًا واهنًا، لا يختلف عن خيمة من جولات الخيش في أطراف السوق. وبينما أسير بين العتمة والبرد، أبصرت طفلاً صغيرًا يكاد يسقط من شدة الارتجاف. قدماه ترتعشان، وأسنانُه تصطكّ من البرد الغارس في العظام.
اقتربت منه بدافع إنساني، أبحث في داخلي عن أي وسيلة للتخفيف عنه. لكن الحقيقة المؤلمة كانت أنني لا أملك ما أقدمه، ولا أستطيع حتى اصطحابه إلى منزلي الذي لا يختلف عن مكانه كثيرًا، إذ هو الآخر أشبه بخرابة لا تقي حرًا ولا بردًا. سألته بصوتٍ متهدج:
– "ألا يوجد مكان آخر تذهب إليه يا صغيري؟"
اقتربتُ أكثر، وما إن وقعت عيناي على ملامحه حتى تجمد الدم في عروقي… كان ذلك الطفل هو ابني.
في تلك اللحظة، سالت دموعي بلا إرادة. رأيت فيه صورة الفقر الموجعة، ورأيت في عينيه انعكاس تقصيرنا كآباء، وانكسارنا أمام قسوة الحياة. كان يحاول أن يخفي دموعه وهو يقول بصوت بالكاد يُسمع:
– "يا أبي… جئت أبحث عن دوائك، لكنني لم أجده. ولم أستطع العودة إلى البيت لأراك على هذه الحال."
كان يتحدث بلغة ممتلئة بالحرقة، كأنه يعتذر لي عن ذنبٍ لم يقترفه. شعرت أن قلبه الصغير يئن من شعور بالذنب تجاه مرضي، بينما هو في الحقيقة ضحية لا حول له ولا قوة. لم أجد ما أفعله إلا أن أحتضنه بدموعي، دموع الفقر التي جمعتنا في لحظة ألم واحدة.
ذلك المشهد لم يكن مجرد لقاء عابر بين أب وابنه، بل كان مرآة صادقة لحال آلاف الأسر التي مزقها الفقر. أطفالٌ أصبحوا آباء قبل أوانهم، وآباءٌ انكسرت هيبتهم أمام أبنائهم. أي مستقبل نرجوه لهؤلاء الصغار الذين تعلموا لغة الحرمان قبل أن يتعلموا الهجاء؟ أي أمل نطلبه ونحن لا نمنحهم الحد الأدنى من الكرامة؟
إنها صرخة يجب أن تُسمع، صرخة تقول إن الفقر ليس مجرد أرقام في تقارير اقتصادية، بل هو دموع على وجوه الأطفال، وانكسار في قلوب الآباء. نحن بحاجة إلى أن نعيد الاعتبار للأسرة، أن نمنح الأبناء حقهم في التعليم والحياة الكريمة، وأن نصنع شبكة أمان تحميهم من أن يكونوا ضحايا الشوارع.
فكل طفل مشرد في الطرقات هو خسارة للوطن بأكمله، وكل دمعة تنهمر من عينيه هي إدانة لمجتمعٍ لم يقم بواجبه. الفقر ليس قدَرًا محتومًا، بل هو نتيجة سياسات وظروف يمكن تغييرها إن وجدت الإرادة الصادقة.
اليوم، ونحن نقف على شفا حفرة من لهب، علينا أن نتذكر أن ما ينقذنا ليس المال وحده، بل التضامن الإنساني، وإحياء قيم الرعاية والمسؤولية. علينا أن نمنح أطفالنا الأوكسجين الذي يحفظ حياتهم: التعليم، الحب، والأمان. فبدونهم لن يكون لنا غد.