لم نكن يومًا مختلفين عن بعضنا في إنسانيتنا. حتى عاداتنا وتقاليدنا، على تعددها، لم تكن تفصل بيننا بقدر ما كانت توحدنا. كنا أبناء المنطقة ذاتها؛ نشأنا في الأزقة الضيقة، ولعبنا في الساحات الترابية، وتذوقنا معًا شغف الطفولة الأولى. تربينا على الاحترام المتبادل بين الصغار والكبار، فكان الكبير أبًا للجميع، والصغير ابنًا للجميع، ولم نشهد في حياتنا ظلمًا يُذكر. كأننا، من حيث لا ندري، صغنا قوانين غير مكتوبة تحكم سلوكنا، لكن تلك القوانين لم تُخط بالحبر أو تُعلق على الجدران؛ بل كانت مغروسة في قلوبنا منذ الصغر.
في قريتنا، لم تكن إنسانيتنا تهضم حقوق النساء أو الأطفال، بل كنا نرى فيهم امتدادًا لحياتنا، وأمانًا لأيامنا. تساوينا في الحقوق والواجبات، ولم يكن لعمر أو جاه أو نسب فضل على أحد. من كان يظن أنه سينال تمييزًا بسبب قبيلته أو مكانته الاجتماعية، لم يكن ليجد لذلك مكانًا بيننا. لم نعرف النزاعات القبلية، على الرغم من أن قريتنا كانت تضم أكثر من سبع قبائل مختلفة، عاشت جميعها في حب وسلام وتكاتف نادر.
كانت المناسبات السعيدة تجمعنا كما تجمعنا لحظات الحزن. نلبي الدعوات، ونتشارك الطعام، ونسهر معًا في الليالي الطويلة، نصنع من الفرح جسورًا ومن الأتراح مواساة حقيقية. بل إن هذا التمازج أفرز تداخلًا اجتماعيًا متينًا، تُوج بتصاهر بين القبائل حتى لم يعد يُعرف ابن هذه من تلك، وصار الدم واحدًا والرحم واحدًا.
ومن بين كل هؤلاء الناس، يظل اسم "العم عباس" عالقًا في ذاكرتي كرمز للإنسانية الخالصة. لم يكن في القرية من لا يعرفه. رجلٌ رحيم بمن أمامه، أنيس لمن لا يجد مؤنسًا، كريم مع كل من زاره أو مرّ ببابه. يعرف الصغير والكبير بأسمائهم وأحوالهم، ويستبق حاجة الناس قبل أن يطلبوها. يطرق أبوابهم بالمبادرات، يساهم في كل عمل جماعي، ولا يهدأ له بال حتى يرى القرية في حالة نهضة وتكافل.
وذات صباح هادئ، تلقيت منه مكالمة لم أتوقعها. قال لي بصوته المألوف:
"أنا اتصلت بك بخصوص زواجك من بنتي الكبرى".
أوقعني العم عباس في موقف أربكني، لكنني كنت واثقًا من طيب نواياه. كنت أعلم أنه لا يريد أن يحرجني أو يضعني في موقف لا أرضاه. ترددت قليلًا، ثم قلت له بصوت حاولت أن أجعله ثابتًا:
"قبلت عرضك يا عم عباس، وسأعمل على ترتيب أموري خلال الأسابيع القادمة".
لكنني لم أكن أعلم أن مجرد كلماتي تلك كانت كافية عنده. فاجأني قائلًا إنه قد رتب كل شيء تقريبًا: مراسم الخطوبة، بروتوكولات العقد، وحتى تفاصيل الاستعدادات. قال لي بابتسامته التي تُسمع عبر الهاتف:
"لا عليك، فقط أخبرني متى تكون مستعدًا، وسأهتم بالباقي. ولتعلم، يا بني، أن البنت التي ستتزوجها هي بنت العمدة ود أرباب".
كاد قلبي يتوقف حينها. لم أستطع تصديق ما سمعت؛ كان الأمر بالنسبة لي أقرب إلى حلم جميل من أن يكون واقعًا. لكنني أعلم أن العم عباس لا يكذب، وأنه رجل إذا قال فعل، وإذا وعد أوفى. شهادات الناس فيه تكفي لتؤكد صدقه ووفاءه.
وبالفعل، لم يمض وقت طويل حتى أُعلنت مراسم الزواج. اجتمع أهل القرية كلهم كما لم يجتمعوا من قبل. رجال ونساء، كبار وصغار، شيوخ وشباب، جاؤوا من كل بيت يشاركوننا الفرح. لم يكن زفافي حدثًا شخصيًا بقدر ما كان عرسًا للقرية بأسرها. كان الجميع يشعر أن هذا الزواج تتويج لتلك الروح الجماعية التي عشنا بها.
ولم يكن فضله عليّ في ترتيب زواجي أمرًا عابرًا؛ لقد كان بمثابة درس عميق لن أنساه ما حييت. علمني أن الخير يبدأ من المبادرة، وأن الوقوف مع الآخرين في تفاصيل حياتهم الصغيرة قد يكون أعظم أثرًا من إنجازات كبيرة لا تمس حياة الناس مباشرة.
كلما تذكرت تلك اللحظة، أيقنت أن مجتمعنا لم يكن يعيش فقط على الأرض، بل كان يعيش في قلوب بعضه البعض. لم تكن إنسانيتنا شعارات، بل ممارسة يومية. كنا نرى أنفسنا عائلة واحدة، مهما اختلفت قبائلنا أو انحدرت أصولنا. وهذه الذاكرة الجمعية، بصفائها ونقائها، تظل بالنسبة لي أجمل إرث تركته لي قريتي.
قد تتغير الأيام، وقد تتبدل الظروف، لكن صورة العم عباس وهو يمد يده إليّ بعرض كريم، وصورة رجال القرية وهم يرقصون في ساحة الفرح، ستبقى شاهدًا على أن الإنسانية قادرة على أن تصنع قانونًا أسمى من كل الدساتير: قانون المحبة، والتكاتف، والوفاء.