في العاشر من تموز، وبينما تشير الساعة إلى الرابعة عصرًا، كنا في جلسة دافئة نقلب فيها دفاتر الماضي، نستحضر الحاضر، ونستعيد ذكريات الطفولة التي جمعتنا، نحن كوكبة من الأصدقاء الذين فرّقتنا دروب الحياة لسنوات، لكنها لم تنجح في أن تمحو روابطنا أو تضعف ذكرياتنا. كنا دائمًا نتواصل في الأفراح والمناسبات، رغم انشغالنا بالمهنة وتفاصيل الحياة اليومية.
ما جمعنا في هذا اليوم كان نتيجة طبيعية لقوة الروابط التي نسجناها منذ الصغر، ومع تطور وسائل التواصل، أصبح من الممكن أن نكون جميعًا في غرفة واحدة، رغم تباعدنا المكاني. بادرة لطيفة من أحد الأصدقاء، الذي لطالما حرص على تماسك صداقتنا، دفعتنا إلى إنشاء مجموعة على وسائل التواصل الاجتماعي، كانت نافذة جمعتنا من جديد، بل ووطدت علاقتنا أكثر من أي وقت مضى.
علاقتنا تطورت وتعمقت مع مرور الزمن، ووصلت إلى حد المصاهرة، حين ارتبط بعضنا بزواج من شقيقات الأصدقاء، لتُتوَّج هذه العلاقات الاجتماعية بوشائج صداقة متينة يصعب تفكيكها.
في أثناء لقائنا الأخير، كنا نجتمع في إحدى دور الملاهي، حين مرّ بنا رجل مسنّ، يرتدي عمامة ونظارات سوداء، يسير بعصا ويبدو عليه ضعف النظر. بادر أحد أصدقائنا مسرعًا لمساعدته، فأمسك بيده وأوصله إلى برّ الأمان وسط طريق مزدحم.
عاد إلينا مبتسمًا، تملؤه السعادة، فسألته بدافع الفضول عن سرّ فرحته الظاهرة. أجابني: "هذا الرجل منحني الرحمة... ألا ترى علامات الرحمة على وجهي؟" ثم أضاف وقد بدت عليه مشاعر التقدير: "إنه أحد أدباء منطقتنا، ذاع صيته في التسعينيات، وله مؤلفات ودراسات علمية رصينة."
كان من محاسن الصدف أنني التقيت به سابقًا في نادي الخريجين خلال ندوة ثقافية نُظّمت لمناقشة أحد كتبه، والذي تناول فيه حركة التاريخ، والتغيرات السياسية التي تزامنت مع سلسلة من الانقلابات العسكرية، كما تناول دور الشباب في مقاومة الأنظمة الحاكمة، سواء كانت ديمقراطية منتخبة أم عسكرية مستبدة.
ورغم تقدمه في السن – وهي سنة الحياة – إلا أن ما تركه لنا من علم وحكمة سيظل مصدر إلهام للأجيال القادمة. نحن بأمسّ الحاجة إلى أمثال هؤلاء الأدباء الذين يتركون بصمتهم في الوجدان، ويوسعون آفاقنا نحو مستقبل أدبي مشرق.
إن شغف الكتابة هو ما يمنحنا الطاقة الإيجابية للاستمرار، لنقدم للعالم شيئًا من إبداعنا. ولا يمكن بأي حال أن نهدم موروثنا الأدبي والثقافي، لأنه أساس البناء الذي تقوم عليه هوية الأمة وروحها.