نشأنا على احترام الآخر وتبادل المعروف، وتربّينا في زمنٍ كانت فيه القيم متجذّرة في النفوس، حيث كانت الحكايات القديمة تحضن العقول والقلوب، وحيث كانت قصص الأجداد والحبوبات تُشكل وعينا وتغذي خيالنا. كنا نعرف من خلال هذه الحكايات معنى الصبر، والشجاعة، والكرم، والتعاون. أما اليوم، ونحن نعيش في عصر الاستلاب الثقافي، نجد أن كثيرين قد تخلوا عن تلك الجذور، متماهين مع ثقافات بعيدة لا تمتّ إلى تاريخنا وأعرافنا بصلة.
الحداثة لا تعني أبدًا التخلي عن هويتنا، ولا اقتلاع جذورنا لتغرس في أرض غريبة. يمكن أن نسعى للتقدم في التعليم والعمل والعلوم، وأن نفتح أبواب الابتكار والتكنولوجيا، لكن ذلك لا يعني أن ننسى قيمنا السمحة، التي نفتخر بها، ونقاتل من أجل الحفاظ عليها. فالكرم والتضامن، والتماسك الاجتماعي، هي مقوّمات تجعل أي مجتمع قويًا ومرنًا أمام التحديات، ومحصّنًا ضد الانقسام والفوضى.
لقد شهدنا كيف أن فشل النخب السياسية، وانغماسها في صراعات ضيقة، أدى إلى تفكيك المجتمعات، وأجج النزاعات القبلية، بدلًا من أن تعمل على بناء وحدة وطنية حقيقية، تقوم على التعدد وقبول الآخر. لذلك، نجد أنفسنا مضطرين اليوم إلى التفكير مليًا في مستقبل الأجيال القادمة، التي قد تصحو على واقعٍ مجتمعها يتماهى ويبتعد عن جذوره وهويته.
وفي خضم هذه الحكاية، نجد شخصيات عظيمة أضاءت لنا الطريق، مثل الشيخ محمد أحمد البرعي، الذي كان لإسهاماته الدينية والاجتماعية أثر بالغ في تعزيز قيم التسامح والتعاون، ونشر ثقافة الاعتدال والخدمة المجتمعية. وأيضًا الروائي الكبير الطيب صالح، الذي قدم من خلال أعماله الأدبية نافذة واسعة على مجتمعنا وتاريخه، مزج فيها الأصالة بالحداثة، وخلّد من خلالها إرثًا ثقافيًا وفكريًا يعكس عمق الهوية وروح المكان.
إن فقدان الهوية ليس مجرد فقدان للتراث الثقافي، بل هو فقدان للذاكرة الجماعية، التي تشكل أساس الوعي والمواطنة. لو أننا استلهمنا من التجارب العالمية، مع حفاظنا على إرثنا الثقافي، لكان بإمكاننا بناء مجتمع منفتح على الآخر، ومتقدّم في علومه ومعارفه، وفي الوقت ذاته، متمسّك بأصالته ووحدته.
لا نخشى الرهان على ما تبقّى من حضارتنا وثقافتنا الخالدة، تلك التي أنجبت أجيالًا من العلماء والشخصيات الوطنية العظيمة. فحتى إذا انزلقت فئات محدودة في تيار التماهي، فإن تأثيرها لن يتجاوز حدودها، وستظل الروح الحقيقية للوطن صامدة، ينبض بها كل من يحمل أصالة وقيمًا حقيقية.
في نهاية المطاف، الحكاية لا تتعلق بمكان واحد أو شعب محدد، بل هي دعوة لكل الشعوب والأجيال: لتدرك أن الأصالة والحداثة يمكن أن تتعايش، وأن التقدم لا يعني التخلّي عن الجذور، وأن إرث الأجداد هو المرآة التي نرى فيها مستقبلنا، فلا يجوز أن يُمحى أو يُهمل.