في مساءٍ بعيد، جلستُ معها نتبادل أطراف الحديث. سألتها ببراءة من يبحث عن يقين:
ما هو الإيمان في نظرك؟
ابتسمت بهدوء، وأجابتني بكلمات حفرَت أثرها في داخلي:
"لا تسألني عن الإيمان، بل حدّثني عن قلبك. فأنا لا أؤمن إلا بشيء واحد؛ هو عشقك أنت وحدك."
كانت عبارتها كافية لتشعل في داخلي عاصفة من التأملات. شعرت أنها تلخص فلسفة العمر في جملة واحدة، وأنها تربط وجودها بما أحمله نحوها من مشاعر. لكنها أردفت قائلة:
الحياة لن تتغيّر ما لم تقل لي حقيقة ما في قلبك.
ومنذ تلك اللحظة، سكن الصمت بيننا؛ صمتي أنا المذنب بالتردد، وصمتها هي التي تنتظر الجواب.
تلك الليلة كانت السماء تمطر بغزارة، والرعد يمزّق السكون بصوته المزلزل، حتى كأن الفضاء يريد الانشقاق ليسقط على رؤوسنا. ظل الجميع ساكنين، لا أحد يجرؤ على الحركة، فالرهبة شدّت الأرواح بسلاسل غير مرئية.
وسط تلك العاصفة، أخذت أحدث نفسي:
ماذا لو متّ الآن ولم أقل لها ما يعتمل في صدري؟
ماذا لو ضاع العمر دون أن أنطق بكلمة حاسمة، تبني لنا جسرًا نحو غدٍ مشترك؟
أحسست للحظة أنها معي، تمسك بيدي وتسحبني نحو الشرفة، حيث أخذنا نرقص تحت المطر كطفلين يلهوان ببراءة العالم. ثم تبدّلت الصورة في خاطري، فإذا بنا في رقصة زفافنا الأولى، تلتف حولنا الموسيقى، ونعيش لحظة لا تشبه شيئًا سوى البداية الحقيقية لحياتنا.
وحين أفقت من خيالي، وجدت نفسي أمامها، وجهاً لوجه، لا فاصل بين الحقيقة والوهم.
هناك، أدركت أن الوقت حان لأكسر قيود الصمت. لم يعد في الأمر مجال للهروب، ولا حاجة لقراءة إشارات العيون أو لغة الجسد. كان علي أن أقول ما احتبسته طويلاً.
نظرت إليها بعينين أثقلتهما العاطفة وقلت:
"منذ أول لقاء لنا، وقعت في حبك. لم يكن كلامًا عابرًا ولا نزوة مراهق يلهو، بل كان اعترافًا صادقًا من قلب أدرك أنه وجد نصفه الآخر. كنتِ الوحيدة التي شعرت أنني أستطيع أن أفتح لها أبواب داخلي، أن أضع بين يديها ضعفي وقوتي معًا، وأن أرى المستقبل قائمًا على شراكة عاطفية واجتماعية متينة، يقويها الحب وتسقيها عاطفتنا المشتركة."
توقفت لبرهة، كأنني أستجمع ما تبقى من شجاعة، ثم واصلت:
"أنتِ ضلعي الذي لا يكتمل إلا بك، وروحي التي لا تهدأ إلا معك. ليس هناك مبرر للهرب من فاتورة هذا العشق الذي كتب علينا. أنتِ لم تُخلقي إلا من أجلي، وأنا لم أُخلق إلا لأكمل حياتي إلى جوارك. هذا ليس وعدًا مؤقتًا ولا اندفاع لحظة؛ إنه قدر رسم خطوطه منذ البداية."
شعرت حينها أن قلبي ينطق بلغتين؛ لغة العاطفة ولغة القرار. فقلت بلسان أهلنا، بما لا يحتمل التأويل ولا المواربة:
"أنا أريد أن أتزوجك. دعينا نبني بيتنا الذي يحتضن أحلامنا، ونربي فيه مشاعرنا كما تُربّى زهرة في بستان، نسقيها من رحيق أيامنا، ونحميها من عواصف الدنيا."
كان اعترافي بمثابة ميلاد جديد لذاتي. لم أعد ذلك الشخص الذي يهرب خلف الأسئلة أو يختبئ تحت ستار الصمت. لقد تحولت من متردد يهاب الاعتراف، إلى رجل يعلن عشقه ويعترف برغبته في أن يُكمل الطريق مع من اختارها قلبه.
إن الحب ليس كلمة تُقال في لحظة طيش، ولا وعدًا هشًا يذوب أمام أول اختبار. الحب بناء متين، أساسه الصراحة وجدرانه الثقة وسقفه الوفاء. وحين ننطق بكلمة "أحبك"، فإننا لا نعني بها مجرد شعور عابر، بل نعني أننا مستعدون لنسج حياة مشتركة، بكل ما فيها من مسؤولية وفرح وتحديات.
---
لذلك، لم أجد أفضل من الزواج سبيلًا لحماية هذا العشق من العواصف، ولتحويله من أمنية حالمة إلى حقيقة تعاش. فما قيمة المشاعر إن بقيت معلّقة بلا مأوى؟ وما معنى الإيمان بالحب إن لم يُترجم إلى التزام أبدي يربط بين قلبين؟
كنت أعلم أن ما قلته قد غيّر كل شيء. لم يعد هناك مجال للتردد أو المواربة. كلماتها الأولى عن الإيمان لم تعد لغزًا؛ لقد فهمت أنها أرادت أن تجعلني أُدرك أن الإيمان الحقيقي هو أن أضع قلبي بين يديها بلا خوف، وأني لن أكتمل إلا بها.
وهكذا، لم يكن اعترافي مجرد إعلان للحب، بل كان إعلانًا عن حياة جديدة نبدأها معًا، بيت يؤوي أرواحنا قبل أجسادنا، ورحلة مشتركة نكتب فصولها بلا انقطاع...
ما دام للعشق أنفاس تمدنا بالحياة.