إن الانحياز لقضايا الوطن لا يعني بحال من الأحوال الاصطفاف خلف قبيلة أو جهة، كما لا يُلزمنا بالصمت عن قول الحق، ولا يمنعنا من تكرار مواقفنا التي صدحنا بها في المنابر ومنصات الوعي التي صنعناها بأنفسنا. لقد شربنا من نبع الوعي، وكنا جزءًا من مجتمع بات يُدرك قيمة النضال والمقاومة في وجه الطغيان والاستبداد. وطالما لا زلنا نتنفس، فإننا لا نخشى شيئًا.
من أقبح أنواع الظلم، أن يجتمع عليه الجبن والصمت؛ أن نعرف الظالم، ونسكت عنه، أن نرى الفساد، فنغض الطرف. ليست الحكومات التي ارتضيناها لإدارة شؤوننا آلهة تُعبد، ولا كائنات فوق النقد والمساءلة. الرضوخ الكامل مرفوض، والقسم بالولاء أبدًا لا يكون إلا لوطن يسير على درب المجد، وطنٍ نحلم به، ونبنيه بتضحياتنا، بعقول شبابنا الذين أضاءوا عتمات هذا القارّة.
نحن، إن أخطأنا في التقدير، نغفر لأنفسنا ولرفاقنا. لكن إن فشلنا ونحن نعلم أننا على خطأ، وتجاهلنا الحقيقة عمداً، فحينها لا يحق لنا النوم ولا الصمت. حينها تصبح الخيانة وصمة عار، لا يمحوها الزمن ولا يغفرها الضمير، ولا يُقبل فيها الاعتذار.
العالم لم يتقدم بالحزازات ولا بالمشاحنات السياسية، بل نهض بالعلم وبالكوادر المؤهلة التي لم تَحكمها الولاءات الضيقة. وحدها العقول التي آمنت بالدولة، لا بالحزب، من بنت الأوطان ورفعت منارات العدالة.
لقد أثبتت التجربة، مرارًا وتكرارًا، أن الترضيات الحزبية والمناطقية لا تُنتج قادة، بل تُنتج عثرات. كل من تقلّد منصبًا بفضل انتمائه لا كفاءته، فشل في مهمته، وأثبتت الأيام أن ولاءه لكيانه الحزبي طغى على واجبه تجاه الدولة والشعب.
تضافر الجهود... سبيل النهوض والوحدة
إن تاريخ السودان حافل بالدروس التي تؤكد أن تفكك الصفوف واختلاف الولاءات الحزبية أو القبلية لم يفضِ إلا إلى المزيد من المعاناة والانقسام. فقد شهدنا على مدار عقود كيف أن الخلافات الداخلية أعاقت بناء دولة قوية وعادلة، وتركّت الجراح تنزف، وحالت دون تحقيق آمال شعبنا في الأمن والتنمية والكرامة.
وفي الوقت الذي نواجه فيه تحديات جسيمة تتطلب تضافر كل الطاقات، لا يمكن لأي منا أن يسمح لأنانيته أو ولاءاته الضيقة أن تكون حجر عثرة في طريق الوطن. إن الوحدة الوطنية ليست شعارًا فارغًا، بل هي المبدأ الأسمى الذي يجب أن نلتزم به، لكي نعيد بناء مؤسسات الدولة، ونؤسس لحقبة جديدة تنبذ الظلم والفساد وتُعلي من قيمة المواطن.
لقد قدم أبطال السودان من مختلف القبائل والمدن تضحيات جليلة في سبيل الحرية والعدالة، وهم اليوم بحاجة إلى وقوف الجميع معهم يدًا واحدة، بلا تمييز أو تحيز، فالوطن لنا جميعًا، وحمايته من مسؤوليتنا المشتركة.