الأجواء هنا، يا صديقي، متقلِّبة كقلب عاشقٍ في أول الطريق. لحظةٌ نغرق في جمالها، وأخرى نحملق في الغيب، كأننا نترقّب ما يخبئه القدر على استحياء. وكأنّ حياتنا صارت سيمفونية تتداخل فيها النشاز بالبهاء، كلوحةٍ ملوّنة على جدار برلين، لا تبرح ذاكرتنا، ولا تغادر عيوننا مشهد السماء حين تزدان بزرقتها حدّ الثمالة. هل تشعر بما أشعر؟ أم أنني وحدي من يتسكع في تلك العوالم الموازية؟
كنا في الحقل، أنا وأبي، وجدّي، وشقيقتي الصغرى. كانت وردةً متفتحة في نظر والدي، لا يجرؤ أحد على مسّها بسوء. يقاتل من يوبّخها، يزمجر في وجه من يعكّر صفوها، كأنها روحه وعقله وجسده. بل كأنها ابنته الأولى والأخيرة، رغم أنها الأصغر، لكنها كانت تستحق هذا الحب الغامر، والتقدير العميق من والدي، ومنّا جميعًا.
وبينما نسير على الدرب الترابي، مرّت من أمامنا فتاة... لا، بل ملاك، يسير بخفة وسط الناس. أعرفها جيدًا. كانت صديقةً لشقيقتي في سنوات الطفولة، لكن محطات الحياة حملتهما في اتجاهين مختلفين. لم تكن غريبة، لكنها بدت في تلك اللحظة وكأنني أراها لأول مرة.
تأملت عينيها، ذاك الصفاء المائي الذي يحاصر وجهاً يفيض بالسكينة، وجهٌ كُتب له أن يكون طاهرًا من قلق الأرض. بقيت أتأملها، غارقًا في ذهولٍ لم أنجُ منه. الوالد التفت إليّ كمن قرأ ما يدور داخلي، فربت على كتفي وهمس ضاحكًا:
— على الأقل، ردّ السلام يا ولدي!
كانت قد حيّتْنا جميعًا، فردّ الجميع إلا أنا... كنت هناك، في عالمها، أغوص في احتمالات لم تبدأ بعد. سألني أبي بدهشة:
— ما بك؟ لا تزال تنظر إليها! أأصابك شيء؟
ابتسمت، ثم تنهدت:
— يا أبي... لا أنظر إلى فتاةٍ عابرة، بل أرى مستقبلي. أرى عمري الذي أريد أن أبنيه مع فتاةٍ مثلها، طاهرة الوجه، عذبة الخلق، نورٌ على هيئة إنسان.
اندهش الوالد من جرأتي، من فيض كلماتي، وقال ضاحكًا:
— ظننتك لا تعرفها! لكن يبدو أنك تزوّجتها في الخفاء! هل هناك ما تخفيه عني يا فتى؟
أجبت بثقة يكسوها الحياء:
— لا، يا أبي... فقط كنتُ أحلم. لكن الآن، الخيار لك. اطلبها لي، فقد علمتُ أن والدها المهندس كان زميلك في هيئة السكة حديد. كنت مديرها، وهو يعرفك وتعرفه جيدًا.
ضحك أبي ضحكةً عريضة، ملأت الحقل والسماء معًا، وقال:
— فلتعتبر الأمر مقضيًّا يا ولدي... فإن كانت كما وصفت، وأنت كما أنت، فلا أحد يستحقها أكثر منك.





































