في بلادٍ يختلط فيها المبدأ بالرغبة، والدين بالعُرف، والسياسة بالمصالح، يقف التعدد – سياسيًا كان أم اجتماعيًا – بين أمرين؛ نصٌّ سماوي يشرّع، وواقع أرضي يتوجّس.
هنا، لا تكفي الآيات ولا الأحاديث لإقناع النفوس، لأن الصراع أعمق من مجرد أحكام مكتوبة؛ إنه صراع بين ما نؤمن به وما نستطيع تطبيقه، بين ما ننادي به على المنابر، وما نعيشه خلف أبواب البيوت.
في بلادنا، يا صديقي، يبدو أن للتعدد وجوهًا شتى، كلها محاطة بالخوف والتحفظ، وكأننا أمام جريمة خفية، أو سرٍّ لا يجوز البوح به.
نتحدث عنه في السياسة بلسان الحالمين، ونرفعه في الشعارات على منصات الفكر، ثم نتلعثم حين يقترب من حياتنا، ونعجز عن أن نمد له جسور العبور من التنظير إلى الواقع.
التعدد السياسي عندنا يشبه طائرًا في قفص؛ نغني له، ونرسمه على الجدران، لكننا لا نجرؤ على إطلاقه في فضاء الحرية.
كل طرف متمسك بمقعده، وكل فكرة تريد أن تتفرد وحدها، فلا تقبل التعايش ولا المساكنة.
أحزاب تنادي بالمشاركة، وقادة يرفعون رايات الشراكة، لكنهم عند الامتحان ينهارون أمام إغراء السيطرة، وكأن السلطة قدر لا يقبل القسمة.
وإذا تجاوزنا السياسة إلى حياتنا الاجتماعية، وجدنا المشهد أكثر تعقيدًا.
تعدد الزوجات، الذي شرعه الله وجعله من سنن نبيه الكريم، صار في أعين كثيرين خطيئة اجتماعية، أو على الأقل، امتحانًا صعبًا لا ينجو منه أحد.
حكى لي صديقٌ أنه جلس مع زوجته يحدثها عن التعدد، فقال لها مبتسمًا:
"يا وردتي، ربنا ما أحلّ لنا واحدة فقط، بل أذن أن نتزوج مثنى وثلاث ورباع. هذا ديننا وسنة نبينا، فمن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء."
ثم أضاف: "الزواج عبادة، وتمامٌ لنصف الدين، والنبي أمرنا بالزواج من الودود الولود، فهو يفاخر بنا الأمم يوم القيامة."
لكن زوجته لم ترَ في كلماته إلا إعلان حرب على استقرار بيتها.
هكذا هو الحال عند أغلب النساء في مجتمعنا؛ لا يقبلن بزوجة ثانية، وإن قبلن فبشروط تجعل الأمر أقرب إلى الانفصال منه إلى المشاركة: بيت منفصل، حياة منفصلة، وغياب كامل عن تفاصيل الأخرى.
وغالبًا، لا تمر الأيام حتى تتفجر الخلافات من لا شيء، ويغدو البيت ساحة معركة لا تهدأ.
أما الرجال، فكثير منهم سلّموا بالواقع، وصاروا يرددون:
"خليها في حالها، هي مغلوبة على أمرها، والزوجة الثانية ما عندها إلا الثرثرة."
وهكذا يتحول التعدد من سنة مباركة إلى مصدر للنكد والخصام، لأننا فشلنا في إدارة المشاعر قبل أن نفشل في إدارة البيوت.
التعدد، يا صديقي، ليس مسألة أرقام، بل مسألة عدل.
والعدل هنا ليس رفاهية، بل شرط لا يقوم التعدد إلا به.
هو مسؤولية قلب وعقل قبل أن يكون مسؤولية مال ونفقة.
فمن ظن أنه مجرد حق للرجل، وأهمل كونه اختبارًا لقدرته على الإنصاف، فقد ظلم نفسه وظلم النساء.
مشكلتنا ليست مع النصوص الشرعية، بل مع قلوب ضاقت عن استيعابها، ومع مجتمع ربّى أبناءه على الخوف من المشاركة، سواء في الحكم أو في الحب.
نحن بحاجة إلى شجاعة الصراحة، وإلى وعي يوازن بين شرع الله وواقع الحياة، حتى لا تظل سنة التعدد حبيسة الكتب، ولا تبقى شراكاتنا – في السياسة وفي الزواج – رهينة الأنانية والتوجس.
فالتعدد الذي أراده الله كان بابًا للرحمة، ومظلة للعدل، وسبيلاً لإعمار الأرض بالود والذرية.
لكننا، حين أضعناه، أضعنا معه شيئًا من إنسانيتنا.
وهكذا، يبقى التعدد امتحانًا حقيقيًا لمدى صدقنا مع ديننا وقدرتنا على حمل أمانة العدل.
فإما أن نرفعه بميزان الرحمة والحكمة، فنحيي به سنة السماء على وجهها الصحيح، أو نتركه رهينة الأهواء والمخاوف، حتى يظل بيننا نصًا محفوظًا في الكتب، غائبًا عن البيوت والقلوب.
وحينها، لن يكون التعدد هو المشكلة، بل نحن الذين ضاقت صدورنا عن رحابة ما أراده الله لنا.