مقدمة: اللعبة التي لا تنتهي
في كل مرة يحاول فيها السودان أن يفتح صفحة جديدة، يجد نفسه عالقًا في رقعة شطرنج سياسية، تُدار من وراء الستار. تتبدل الوجوه لكن اللعبة ذاتها لا تتغير؛ جنود يُزجّ بهم في معارك عبثية، وملوك يختفون عن المشهد، بينما يبقى الشعب أسيرًا بين أن يكون لاعبًا حرًّا أو قطعة تُحرّكها أيدي الآخرين.
رقعة الشطرنج القديمة
منذ عقودٍ طويلة، والسودان يتحرك فوق رقعة شطرنج، حيث اللاعب الخفي يوزّعنا بين السُّود والبيض. جنودٌ يُزجّ بهم في معارك لا تخصهم، وزراء يبدون كقطع ثانوية، وملوك يتوارون عن الأنظار ليديروا الدولة من وراء ستار، بينما يكتفي الشعب بمتابعة اللعبة وكأنها قدر لا فكاك منه.
إرهاق المواطن وغياب القيادة
تعب المواطن من شقاء العمل، وأثقلت كاهله أزمات السياسة. وكأن الدولة لم تُنجب يومًا قادةً يضعون مصلحة الناس في قلب اهتماماتهم. فالمشهد يتكرر: وعود جوفاء، محاولات لإعادة تدوير الماضي، وجوه تتبدل لكن النهج واحد؛ اجترار الفشل وإضاعة الفرص.
العسكر… اللاعب المخفي
الأدهى أن من يتوشحون بالرُّتب العسكرية يحركون الساحة كيف يشاؤون. وإذا استدعى الأمر، يُفتعل صراع، وتُفتح جبهات، ويُلقى بالشعب الأعزل في أتون معارك لا شأن له بها. دماؤنا تصير مباحة، بينما يجلس الطاغية على مقعده متسليًا بلعبة الحكم، يمارس ما مارسه من سبقه: قتل الشعب بالشعب.
شرعية القتلة في عيون الخارج
والمجتمع الدولي؟ يراه الحاكم العادل، لأنه يصدّق تقارير مزوّرة ويكتفي بمشاهد تُعرض على الشاشات. هكذا تُمنح الشرعية لقتلةٍ بارعين في صناعة الوهم.
جيل ديسمبر… بريق لم يكتمل
لكن السؤال الملح: لماذا نبقى أسرى لهذه الرقعة؟ لماذا لا نحطم اللعبة ونصنع مسارنا بأيدينا؟ لقد أثبت الشعب السوداني أنه قادر على النهوض، وأنه حين يتحرك بوعي يكتب أعظم الثورات السلمية. ثورة ديسمبر كانت شهادة حيّة على جيلٍ استحق أن نطلق عليه "جيل الثورة الشبابية"، لأنه تجاوز حدود أحلامنا، ورفع سقف التغيير أبعد مما ظننا ممكنًا.
الثورات التي تنتصر ثم تُخترق
ومع ذلك، تظل المعضلة قائمة: نحن ننجح في إسقاط الطغاة، لكننا نفشل في حماية مشروع الدولة المدنية. نصطدم بخيانة النخب، وضعف التجارب، ثم ندور من جديد في الحلقة المفرغة: انقلاب، حكم مدني هش، شراكة عسكرية ـ مدنية، ثم انهيار.
غياب المشروع الوطني
إن أصل المأزق ليس فقط في غياب القيادة الصادقة، بل في غياب المشروع الوطني الجامع. فكل سلطة تأتي لتعيد إنتاج ذات الخطاب، دون أن تضع خطة اقتصادية أو رؤية سياسية تضمن استقرار الدولة وتماسك مؤسساتها. ولأننا نرضى بالقليل، ولأن ذاكرة الألم عندنا قصيرة، سرعان ما نغفر للفشل ونعود لنكرره من جديد.
الوعي وحده لا يكفي
إن الشعب السوداني لا تنقصه الكفاءة ولا الوعي، فقد قدّم عبر تاريخه نماذج ناصعة في الصمود والإبداع والبطولة. ما ينقصه اليوم هو التنظيم المحكم، والقدرة على حماية منجزاته من عبث النخب والانقلابات المتكررة. فما جدوى الثورة إن لم تستطع بناء مؤسسات تصونها؟ وما جدوى التضحية إن ضاعت الدماء بين مطامع السياسيين وتكتيكات العسكر؟
كسر الرقعة… هل حان الوقت؟
لقد حان الوقت لوعيٍ مختلف؛ وعي يتجاوز مجرد إسقاط حاكم، إلى بناء مشروع وطني متكامل. وعيٌ يجعل من الشعب قوة رقابية فاعلة، لا تكتفي بالمطالبة بالتغيير، بل تضع آليات لحماية هذا التغيير وترسيخه. هنا فقط يمكننا أن نخرج من دائرة الشطرنج، وأن نصنع لعبة جديدة، يكون الشعب فيها اللاعب لا القطعة.
خاتمة: لحظة الحقيقة
فالتغيير الحقيقي لا ينتظر جيلًا آخر، بل يبدأ من جيل اليوم، من هذه اللحظة. ومن لم يتعلّم من مرارة التجارب الماضية سيظل أسير الحلقة المفرغة. فهل نملك الشجاعة لنكسرها، أم سنبقى أسرى رقعة الشطرنج إلى ما لا نهاية؟