في قلب النيل الأزرق، حيث تمتد القرى والبلدات على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، تعيش مجتمعات ريفية ما زالت بعيدة كل البعد عن الخدمات الأساسية التي تشكّل أبسط مقومات الحياة الكريمة. فالمياه الصحية شبه معدومة، والكهرباء لا وجود لها إلا في نطاق محدود، أما الخدمات الصحية فتكاد تنحصر في مراكز بدائية لا تكفي لمواجهة أبسط الحالات الطارئة.
هذا الواقع ليس جديدًا، بل هو نتيجة تراكمات طويلة من الوعود السياسية التي كانت تتكرر مع كل دورة انتخابية. قادة الأحزاب درجوا على زيارة هذه المناطق في مواسم الاقتراع، يوزّعون الوعود تارة، ويغذّون آمال البسطاء تارة أخرى، لكن سرعان ما تُدفن هذه الوعود مع صناديق التصويت، فلا تعود للسطح إلا مع حملة انتخابية لاحقة. وبهذا ظلّ المواطنون أسرى دائرة مغلقة من الخداع السياسي والتضليل المتكرر.
ومع ذلك، يظل هناك خيط أمل يلوح في الأفق، إذ أن هذه المناطق تُذكر أحيانًا في خطابات السياسيين وخطط التنمية المعلنة، لكنّ الذكر غالبًا ما يكون لأغراض مصلحية بحتة، وليس من منطلق رؤية تنموية حقيقية.
المؤسف حقًا أن الريف الشمالي للنيل الأزرق ليس منطقة هامشية بلا قيمة؛ بل هو من أهم الأقاليم الزراعية وأكثرها ثراءً بالموارد. هنا تتوزع مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة التي تنتج محاصيل متنوعة، وتنتشر ثروة حيوانية ضخمة يعتمد عليها الاقتصاد المحلي، فضلًا عن غابات الصمغ العربي – بشجري الهشاب والطلح – التي تُعد مصدر رزق لآلاف الأسر. الصمغ وحده سلعة استراتيجية على المستوى الوطني، تصدّر للخارج وتدخل العملة الصعبة إلى خزائن الدولة، بينما يظل المنتجون أنفسهم يعيشون في ظروف قاسية بلا خدمات تليق بتضحياتهم.
التعليم يمثل صورة أخرى من صور التهميش. فبينما كان من المفترض أن تُنشأ مدارس ثانوية ومتوسطة تغطي كل قرى الريف الشمالي، ظلّ هذا الأمر مجرد حبر على ورق. القليل من المدارس القائمة اليوم نشأ بفضل جهود مجالس الآباء المحليين، الذين يجمعون التبرعات من أبناء القرية لبناء فصل أو تجهيز مقاعد أو دفع رواتب المعلمين. أما وزارة التربية والتعليم، التي يفترض أن تضطلع بدورها، فقد غابت خططها التنموية تمامًا عن هذه المناطق.
البنية التحتية بدورها تكشف عن عمق الأزمة. فالطرق الترابية غير المعبدة تجعل حياة الناس جحيمًا في فصل الخريف، حيث تنقطع القرى عن عاصمة الإقليم وتصبح معزولة عن العالم الخارجي. يزداد الوضع سوءًا عندما يحتاج مريض إلى مستشفى أو طالب إلى مدرسة أو مزارع إلى سوق لتصريف منتجاته. ومن أبرز الأمثلة طريق الروصيرص – سنار (الجهة الشرقية)، وهو طريق استراتيجي يربط مناطق الإنتاج الزراعي والحيواني بالأسواق المحلية والإقليمية، بل ويمثل رافدًا مهمًا للاقتصاد الوطني. ومع ذلك، ظل هذا الطريق مهملاً لعقود، وكأن تغييب التنمية عنه كان مقصودًا أو نتاجًا للمحسوبية والإدارة غير الرشيدة.
إن تغييب التنمية عن هذه المناطق لا يقتصر أثره على السكان المحليين وحدهم، بل يمتد ليؤثر على مجمل اقتصاد الإقليم والدولة. فحرمان منطقة تمتلك كل هذه الموارد من الخدمات الأساسية يعني تعطيل عجلة الإنتاج، وتقليص العوائد الاقتصادية، وحرمان الأسواق من منتجات أساسية يمكن أن تسد فجوات كبيرة في الغذاء والتجارة.
الأدهى من ذلك أن استمرار هذا الوضع يفتح الباب أمام هجرة الشباب من الريف إلى المدن أو إلى خارج البلاد، بحثًا عن فرص أفضل. ومع نزيف الهجرة تتراجع القوة الإنتاجية للريف، وتزداد هشاشة البنية الاجتماعية، ويخسر الوطن طاقات بشرية كان يمكن أن تسهم في نهضته.
لقد آن الأوان أن تكسر حكومة الإقليم هذه الحلقة المفرغة. المطلوب ليس وعودًا جديدة ولا خطابات براقة، بل خطوات عملية تبدأ بوضع طريق الروصيرص – أم درمان وملحقاته على رأس الأولويات، إلى جانب مشروعات مياه الشرب، والكهرباء الريفية، وتوسيع خدمات الصحة والتعليم. البدء في هذه الخطوات يجب أن يكون عاجلًا وملموسًا، لا سيما مع مطلع ديسمبر المقبل، حتى يطمئن المواطنون أن حديث التنمية لم يعد مجرد شعارات جوفاء.
إن إنصاف الريف الشمالي بالنيل الأزرق ليس تفضلاً من أحد، بل هو استحقاق وطني، وحق أصيل لمواطنين ظلوا على الدوام يرفدون اقتصاد السودان بخيرات أرضهم وعرق جبينهم. وما لم تدرك الحكومات المتعاقبة هذه الحقيقة، فستظل فجوة الثقة بين المواطن والدولة في اتساع مستمر، وستظل التنمية مجرد كلمة غائبة عن قاموس هذه المناطق.