منذ سنوات الدراسة الأولى، كان لي مع الرياضيات حكاية مختلفة. لم تكن مجرد مادة دراسية في جدول الحصص، بل كانت نافذة أطلّ منها على عالم أوسع من الأرقام والمعادلات. كنت أترقب حصة الرياضيات بشغف، بينما يتظاهر كثيرٌ من زملائي بعدم حبّها، بل ويطلقون عليها في المرحلة الثانوية اسم “فراق الحبان”، لا أدري كيف التصق بها هذا الاسم الغريب! خصوصًا وأن طلاب المساق العلمي هم الأجدر بأن يكونوا عشّاقها، لا أن ينفروا منها.
كنت أحب الرياضيات لأنها كانت تمنحني شعورًا بالانضباط العقلي، وكأنها تمارين يومية للياقة الذهن. لم تكن المسألة بالنسبة لي أن أحلّ معادلة فحسب، بل أن أتعلّم الصبر والتدرّج في الوصول إلى الحل، أن أدرّب نفسي على التفكير المنطقي، وأن أكتشف متعة الوصول إلى النتيجة بعد رحلة من المحاولات. ولهذا السبب كانت الرياضيات بالنسبة لي أقرب إلى فلسفة للحياة منها إلى مجرد مادة تعليمية.
وما زاد شغفي بها أن جدول الحصص كان يمنحها الصدارة في معظم المراحل؛ تأتي دائمًا في الحصص الأولى قبل الفطور، حين يكون الذهن صافيًا والجسد أكثر نشاطًا، فيتهيأ الطالب لتلقّي القوانين والإثباتات الجديدة بتركيز عالٍ. كنت أشعر أن عقلي في تلك اللحظات أشبه بصفحة بيضاء جاهزة لأن تُكتب عليها معادلة أو فكرة، فتترسّخ في الذاكرة وتبقى عالقة لوقت طويل.
أما المعلمون الذين حملوا على عاتقهم تدريس هذه المادة، فقد كانوا في نظري شخصيات استثنائية. كنت ألحظ أن كل معلم رياضيات تقريبًا يتمتع بكاريزما خاصة: صرامة وانضباط في قاعة الدرس، لا يقبلون التهاون ولا يتركون مجالًا للفوضى، ثم روح ودودة وابتسامة خفيفة خارج الفصل، تجعلك تراه كصديق طفولة أكثر منه أستاذًا. هذه الثنائية جعلتني أؤمن أن من يدرّس الرياضيات لا بد أن يجمع بين أمرين: الكفاءة العالية، والشخصية القادرة على بثّ الثقة في نفوس الطلاب وشدّ انتباههم.
وقد لاحظت أيضًا أن الطلاب أنفسهم يحمّلون أستاذ الرياضيات مسؤولية مضاعفة، لأن قناعتهم الراسخة تقول: "إن لم نفهم المعلومة من الأستاذ، فلن نفهمها من أحد." ومن هنا تصبح الحصة لحظة حاسمة، إمّا أن يخرج الطالب منها وقد استوعب تمامًا، أو يبقى في حيرة تستعصي عليه مهما حاول بعد ذلك. ولهذا يصبح تدريس الرياضيات مسؤولية من نوع خاص، تتطلب أسلوبًا مباشرًا وقدرة على التبسيط دون إخلال بالعمق.
وحين أسترجع مسيرتي الدراسية، أجد أن أساتذة الرياضيات – من الابتدائية حتى الجامعة – كانوا يتمتعون بذات الصفات: الانضباط، الجدية، الكفاءة العالية، والحرص على إيصال المعلومة بوضوح. ولا أدري حتى الآن: أهو محض صدفة، أم أن طبيعة الرياضيات تفرض على من يدرّسها أن يكون كذلك؟ وربما الأمر لا يقتصر على الرياضيات وحدها؛ فقد وجدتُ صفات شبيهة لدى معلمي الفيزياء والكيمياء والأحياء، إذ أن هذه المواد العلمية جميعها تحتاج إلى ذهن دقيق وشخصية منظمة.
أما في حياتي اليومية، فقد تركت الرياضيات أثرًا أبعد من قاعة الدرس. تعلمت منها أن كل مشكلة – مهما بدت معقدة – يمكن تفكيكها إلى أجزاء صغيرة يسهل التعامل معها، وأن الخطأ ليس نهاية الطريق بل خطوة في اتجاه الحل الصحيح، وأن الصبر والمثابرة قد يفتحان بابًا للنجاح لم يخطر على البال. صرت أتعامل مع الحياة وكأنها معادلة كبرى: تحتاج إلى ترتيب معطيات، بحث عن المجهول، وربما بعض التجريب قبل الوصول إلى اليقين.
الرياضيات لم تكن مجرد ذكريات دراسية عابرة، بل صارت جزءًا من طريقتي في التفكير، أداة أنظر بها إلى العالم، ومفتاحًا لفهم الحياة بمنطقها الخفي. وربما لهذا السبب، ورغم مرور السنين، لا يزال في داخلي ذلك الطفل الذي كان يفرح بقدوم حصة الرياضيات، وكأنها موعد مع لعبة عقلية أحبها ولا أملّها أبدًا.