كنا صغارًا، لا ندرك من الحياة إلا ما تسمح به ضحكاتنا الندية. نركض حفاةً في طرقات الحي، ونتقاسم التراب والعرق والأحلام الصغيرة. نلعب مجموعات، فرقًا وخصومًا، لا يفصل بيننا سوى صوت الكرة ونبض البراءة.
حيُّنا كان مسرحًا دائمًا للفرح، والجدران المتشققة كانت تصغي لهمساتنا، لصرخات النصر والهزيمة التي نطلقها بلا تردد، وكأن العمر بأكمله يلعب معنا. لم نكن نعلم أن تلك اللحظات ستغدو لاحقًا مجرد صور باهتة في ألبوم الذاكرة.
في زاوية من تلك الذكريات، كانت تمرّ فتاة بخجل. لا تشاركنا اللعب، لكنها كانت هناك دائمًا، تقف كأنها تراقب من خلف حجاب الصمت. عيناها تخفيان شيئًا لا نعرفه، ونظراتها كانت ترتبك كلما ذُكر اسم "المسؤول".
أنا لم أدع الأمر يمرّ مرور العابرين. ثبّتُّ نظري فيها، وبدأت أفسّر صمتها، أقرأ لغة جسدها، أحاول فك شيفرة ذلك الاضطراب الذي يسكن عينيها. استشرت أصدقائي، بعضهم كان يفهم في التحليل النفسي، وبعضهم يدّعي المعرفة. لكنهم لم يبالوا.
أحدهم قال لي صراحةً، وببرودٍ أغضبني:
"يا صديقي، لا تشغل نفسك بصغائر الأمور… هذه أشياء لا تستحق عناء التفكير."
وقفت مشدوهًا، عاجزًا عن الرد. الكلمات تجمّدت على لساني، وشعرت بأن شيئًا انكسر في داخلي. تمنيت فقط أن أقول له: خيّبت ظني فيك.
لكنني لم أستسلم. واصلت وحدي، بدافع لا أفهمه. كان هناك ما يخبرني أن خلف هذا الصمت صرخة، وأن خلف تلك العيون قصة لم تُروَ بعد. وبعد إلحاح، وافق أحد الأصدقاء على الوقوف معي، وأكملنا الطريق سويًا، حتى دون أن نعلم ما نبحث عنه بالضبط.
مرت السنوات، وتغيّر الحي، وتفرّقت الوجوه. بعضنا رحل، وبعضنا تاه، واللعب تلاشى كما تتلاشى الطفولة حين يثقلها الواقع.
ثم جاء الخبر…
"القاتل شخص مسؤول."
كان الخبر كصفعة. الطفلة التي كانت تراقب بصمت، لم تكن شاهدة فقط، بل كانت ضحية. ضحية لذلك "المسؤول" الذي كانت نظراتها تهرب منه، والذي كنّا نذكر اسمه ببساطة لا تليق بحجم الجريمة.
الحي بأكمله ارتجف. عادت الذاكرة ثقيلة، وصوت الكرة اختفى من الطرقات، تاركًا مكانه لصدى الحقيقة.
لقد كبرت الطفلة، لكن ليس مثلنا. كبرت في الظلال، في الخوف، في الوجع المكبوت. وحين انفجر الصمت، لم يكن إعلانًا للحقيقة فقط، بل محكمة أخلاقية سقطنا فيها جميعًا.
فالقاتل لم يكن غريبًا...
القاتل كان شخصًا نعرفه.
شخصًا مسؤولًا.





































