التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه، لكنه يترك لنا أثرًا يذكّرنا بأن ما عشناه بالأمس لن يتكرر بذات التفاصيل. فالأيام التي مضت قد لا تعود أبدًا، وهذه هي صيرورة الحياة التي لا تعرف الرجوع إلى الوراء. من كان بالأمس شابًا يافعًا أصبح اليوم كهلاً يحمل على كتفيه تجارب السنين، ومن كان تلميذًا صغيرًا يتلمس طريق المعرفة، غدا أستاذًا يعلّم الأجيال من بعده. ومن كان لا يدري ما يدور حوله، أصبح الآن أكثر وعيًا بما يجري في واقعه. نحن أبناء الحياة، نحمل فينا روح الأمة الإسلامية، ونسعى لأن نكون نعمة على أوطاننا، نعمة قد تزهر في مواسم العطاء، وقد تذبل حين يطغى الفساد أو يسيطر الإحباط. لكننا، مهما تبدلت الظروف وتعاقبت الأقدار، لا ينبغي أن نغيّر معادننا، ولا أن نفرط في أخلاقنا ومبادئنا.
الحياة دولاب لا يتوقف عن الدوران، وساقية تمضي في ديمومة لا مفر منها. نحن أبناء هذه الدورة، نحمل أحلامنا ونكابد آلامنا، غير أننا نحتاج دومًا أن نتأمل الماضي بوعيٍ، لا لنغرق في تفاصيله، وإنما لنعرف كيف كنّا، وكيف أصبحنا، وما الذي فقدناه في الطريق. ففي لحظاتٍ مضت، كانت الدولة تشهد ازدهارًا اقتصاديًا وتنمويًا يجعلها قبلة للمنطقة من حولها. لم تكن التنمية يومها تعرف حدودًا أو قيودًا، ولم يكن التمييز قائمًا بين منطقة وأخرى أو بين جماعة وأخرى؛ فالمواطن كان هو جوهر الاهتمام، والخدمات كانت حقًا مشاعًا للجميع.
لكننا ما لبثنا أن انزلقنا في هاوية معايير جديدة غريبة على وجداننا. لم يعد التفاضل بين الناس بالكفاءة ولا بالمهنية، بل تسلل معيار آخر اسمه "المحسوبية". ومن هنا بدأت الكارثة؛ إذ حلت الولاءات الضيقة محل النزاهة، وأفسحت الطريق أمام المحاصصات والانتهازية. تغلغل هذا المرض في مؤسسات الدولة حتى صارت المرافق العامة مرتعًا لتقاسم النفوذ، لا ميدانًا لخدمة المواطنين.
شيئًا فشيئًا، تحول الجهاز الإداري والاقتصادي إلى كيان هش، فقد مقوماته وانهارت ركائزه. المرافق لم تعد سوى جزء من دولاب دولة مترنح، يئن تحت وطأة الفساد والتفكك. وما كان يفترض أن يكون عينًا راصدة لحقوق الناس، غدا أداة طيّعة في يد الفاسدين. المؤسسات التي بُنيت لحماية المجتمع، تحولت إلى أبواق مزمجرة تسبّح بحمد القيادات المتملقة، وتغطي على جرائم أسيادها. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام مشهد مُرّ: أصوات المسؤولين تعلو باسم الشعب لكنها لا تنطق بلسانه، بل بلسان انتهازيتهم ومصالحهم الخاصة.
ألم نكن نحن الأحق بأن يكون صوتنا مسموعًا؟ ألم يكن من واجب تلك المؤسسات أن تدافع عن المظلومين، وأن تعبّر عن قضايا المجتمعات المحلية التي خرجت من رحمها؟ لماذا تحوّلنا إلى مجرد متفرجين على مسلسل طويل من الفساد، ندفع فيه نحن – المواطنين – الفاتورة الباهظة، بينما يقتسم المنتفعون الغنائم على موائد السلطة؟
إن أخطر ما أصابنا هو استسلامنا التدريجي لفكرة أن الفساد أمر واقع لا مفر منه. هذه القناعة السلبية سمحت للانتهازيين بأن يتسيدوا المشهد، وللمحسوبية أن تتحول إلى قاعدة، وللأصوات الحرة أن تُقمع أو تُستبدل بأبواق الطاعة. ومع ذلك، فإن في جوف هذا الواقع المرير بذورًا لمستقبل مختلف، لو أننا استعدنا وعينا، ووقفنا على مصالحنا المشتركة بصلابة، وأعدنا الاعتبار لمفهوم الكفاءة الذي ضاع في زحمة المحاصصات.
لقد أثبت التاريخ – القريب قبل البعيد – أن الأمم لا تنهض إلا حين تجعل من العدالة ركيزة، ومن المساواة نهجًا، ومن الأخلاق ميثاقًا. فما الذي يمنعنا نحن أن نعود إلى تلك القيم؟ ألسنا أبناء حضارة عريقة جعلت من الكلمة أمانة، ومن المسؤولية تكليفًا، لا تشريفًا؟ ألسنا ورثة تجارب طويلة تؤكد أن الانحياز للشعب هو السبيل الوحيد للنجاة من دوائر الاستبداد والفساد؟
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى مراجعة شاملة لمسارنا الوطني. علينا أن نُعيد ترتيب أولوياتنا، وأن نكسر حلقة الانتهازية التي تخنقنا. هذه ليست دعوة مثالية، بل ضرورة وجودية؛ فالأوطان لا تُبنى على الفساد، ولا تُدار بالولاءات الضيقة، وإنما بالعدل والشفافية والمحاسبة. وكلما تأخرنا في استعادة هذه المبادئ، ازداد الثمن الذي سندفعه جميعًا.
إن الطريق ليس سهلًا، لكنه ليس مستحيلًا. يبدأ بخطوة أولى صادقة: أن نتحلى بالشجاعة لمواجهة عيوبنا، وأن نرفض دفع فاتورة الفاسدين بعد اليوم. حينها فقط يمكن أن نفتح صفحة جديدة، تعود فيها الدولة لتكون خادمة لمواطنيها لا حامية لمصالح الانتهازيين.
قد لا يعيد التاريخ نفسه، لكنه يترك لنا عبرًا لا ينبغي أن نغفل عنها. وإذا أردنا أن نصنع مستقبلًا أفضل، فعلينا أن نصغي جيدًا لهذه العبر، وأن نعيد كتابة حكايتنا الوطنية بأيدينا، بعيدًا عن دوائر الفساد والمحسوبية، وبعيدًا عن التواطؤ مع انهيارنا المستمر. فلنقف صفًا واحدًا، دفاعًا عن مصالحنا المشتركة، وصونًا لحقنا في وطن يليق بنا ويستحقنا.