شهد العالم في العقود الأخيرة قفزة هائلة في مجال التكنولوجيا، ومعها ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي كأحد أبرز مظاهر هذا التقدم، فقرّبت المسافات، وسهّلت المعرفة، وأتاحت فرصًا للتعليم والتفاعل لم تكن متاحة من قبل. غير أن هذا الوجه المشرق سرعان ما بدأ يحجبه جانب مظلم، خاصة حين تحولت هذه الوسائل من وسيلة للتواصل إلى أداة إدمان تستنزف أعمار الشباب وتؤثر بعمق على صحتهم النفسية والجسدية.
لقد أصبح من المألوف أن ترى شابًا في مقتبل العمر لا يفارق شاشة هاتفه، يقضي ساعات طويلة يتنقل بين تطبيقات التواصل أو ينخرط في ألعاب إلكترونية لا تنتهي، كأنه في سباق لا يمكن التوقف عنه. وعندما تسأله عن السبب، يجيبك بأنه يعيش منافسة حامية في لعبة أو يسعى وراء تفاعل منشوراته، بينما في الحقيقة هو يغرق أكثر في عالم افتراضي يسلبه واقعه. هذه الممارسات لم تعد مجرد تسلية، بل صارت عادة يومية أشبه بالإدمان، تجعل من الصعب على الشباب الانفصال عنها أو العيش بدونها.
الآثار السلبية لهذا الاستخدام المفرط باتت واضحة للعيان. فالكثير من الشباب يعانون من ضعف النظر نتيجة التركيز الطويل على الشاشات، وآخرون يعيشون في عزلة اجتماعية، بعدما فقدوا دفء العلاقات الأسرية وبهجة الجلسات الواقعية التي كانت تجمع الأصدقاء في ميادين القرى أو ساحات المدن. كما أن مشاعر القلق والاكتئاب أصبحت شائعة بينهم، إذ يجد البعض نفسه في مقارنة دائمة مع ما يراه من صور براقة لحياة الآخرين على المنصات، فيفقد الرضا عن واقعه. يضاف إلى ذلك اضطرابات النوم الناتجة عن السهر الطويل أمام الأجهزة، وتشتت الانتباه وضعف التركيز بسبب التنقل المستمر بين التطبيقات.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالتنمر الإلكتروني صار سلاحًا مؤلمًا يترك جراحًا نفسية عميقة، وقد يدفع بعض الضحايا إلى اليأس أو التفكير في الانتحار. كل ذلك جعل حياة الشباب عرضة للاضطراب، وكأنهم على شفا حفرة من فقدان توازنهم النفسي والاجتماعي.
ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا في إيجاد حلول تعيد التوازن. فبإمكاننا أن نستثمر هذه الوسائل في التوعية والتعليم والتواصل الإيجابي، لكن ذلك لن يتحقق ما لم نتعلم وضع حدود واضحة لاستخدامها، عبر جداول زمنية منظمة، وأنشطة بديلة تعيد الحياة للجلسات الواقعية والأنشطة الاجتماعية والثقافية. كما أن للأسرة دورًا أساسيًا في متابعة أبنائها، وتوجيههم نحو الاستخدام الرشيد للتكنولوجيا، بما يضمن لهم التوازن بين عالمهم الافتراضي وحياتهم الحقيقية.
إن الصحة النفسية رأس مال الإنسان، وإذا فقدها الشاب فلن تعود كما كانت. لذا علينا أن نضع نصب أعيننا أن وسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من فوائدها، قد تتحول إلى معول هدم إذا لم نحسن التعامل معها. والوعي بهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى لحماية شبابنا من الوقوع في فخ الإدمان والعزلة، والحفاظ على جيل قادر على العيش بسلام بين واقعه وعالمه الرقمي.





































