قيل في الأثر: "من لا يشكر الناس لا خير فيه"، وقيل أيضًا: "وما جزاء الإحسان إلا الإحسان". هاتان القاعدتان ليستا مجرد كلماتٍ تُروى في مجالس العظة، بل هما روح القيم التي تربّينا عليها وتشرّبناها منذ نعومة أظفارنا. فالشكر للناس ليس مكرمةً زائدة، بل هو انعكاسٌ لإيمان الإنسان بفضل الآخرين في حياته، واعترافٌ صريح بأننا لا نستطيع المضي وحدنا دون يدٍ تمتد إلينا، أو كلمةٍ ترفعنا من عثراتنا.
غير أنّ الإنسان، بطبيعته البشرية، قد يضعف أحيانًا، فتأخذه نفسه إلى الأنانية أو تقديم المصلحة الخاصة، فيتمرد على هذه القيم، ولو إلى حين. لكنّ المواقف العصيبة واللحظات التاريخية التي تمرّ بنا تكشف لنا بجلاء أنّ بعض المواقف لا يمكن تجاوزها، وبعض الأيادي لا يمكن نسيانها، بل ينبغي الوقوف عندها طويلًا لاستخلاص العبر، واستلهام الدروس الحياتية التي تبني وعينا وتوجّه مسيرتنا.
وأنا واحد من هؤلاء الذين يرون في شكر الأصدقاء واجبًا لا يُمكن التنصل منه. لقد مرّت في حياتي وجوهٌ كثيرة، بعض العلاقات فرضتها ضرورات الواقع وتقلباته، فكانت سطحية وعابرة، أشبه بمرور غيمةٍ في سماء صافية؛ تُلقي بظلها لحظة ثم تختفي. لكنّ القدر، في مقابل ذلك، منحني أصدقاء وصديقات دخلوا حياتي بهدوءٍ ومن غير صخب، ومع مرور الوقت أثبتوا أن وجودهم لم يكن عابرًا، بل كان علامةً فارقة، ورصيدًا حقيقيًا يضيء الطريق.
لقد أثبت الزمن أن تلك العلاقات لم تُبنَ على مصالح مؤقتة ولا على منفعة زائلة، وإنما على صدق النية، ونقاء القلب، ورغبة صافية في المشاركة الإنسانية. ومع أن بداياتها لم تكن تحمل ملامح الجدية، إلا أنها سرعان ما استقرت على أسسٍ ثابتة، جعلتني أوقن أن الصداقة الصادقة هي البذرة التي تُثمر ولو تأخرت.
هؤلاء الأصدقاء كانوا بجانبي في لحظات الضعف والانكسار، كما كانوا سندًا لي في محطات الإنجاز والفخر. دعموني معنويًا حين كتبت كتبي الأولى، ولم يقفوا عند حدود الكلمة العاطفية أو المجاملة العابرة، بل امتد دعمهم ليشمل أعمالي الأدبية والفكرية التي وثقتها عبر منصات مثل "تاميكوم". وما زلت أذكر كيف كان تشجيعهم صادقًا، وكيف كانوا يرفعون من قيمة ما أكتب، حتى في الأوقات التي كنت أشك فيها بجدوى ما أقدمه. لقد كان دعمًا لا يجزيه شكر، ولا تكفيه الكلمات مهما طالت.
الأصدقاء في جوهرهم ليسوا مجرد رفقة عابرة، بل هم شعلة مضيئة في مسيرة الإنسان. بهم تكتمل بعض ملامح حياتنا، وبفضلهم نستطيع الانطلاق في طرقٍ ما كنا لنسلكها وحدنا. هم المرآة التي تعكس صورتنا في أوقات الحيرة، وهم اليد التي تنتشلنا من العزلة والوحدة. وربما لهذا قالوا إن الصديق وقت الضيق ليس مجرد مثل شعبي، بل تجربة يعيشها كل من اختبر معنى العزلة ثم وجد قلبًا صادقًا يمد له الجسور.
أقف اليوم إجلالًا واحترامًا لكل صديق وصديقة كانوا بجانبي، وأشعر أنني مدين لهم بالكثير، دينًا لا يمكن أن يُسدّد بفاتورة مادية أو بردٍّ شكلي. إنما يمكن رده بالكلمة الطيبة، وبالوفاء الذي يظل قائمًا حتى بعد أن يذبل كل شيء آخر. وقد يكون الرد الأسمى هو أن أجعل قضاياهم الاجتماعية والثقافية والأدبية جزءًا من اهتماماتي، وأن أكون لسان حالهم فيما يعجزون عن قوله. فالدعم المتبادل ليس مجرد رفاهية، بل هو قاعدة أخلاقية تُبنى عليها العلاقات الإنسانية المتينة.
كثيرًا ما يخطئ الناس في فهم رد الجميل، فيعتقدون أن الرد لا بد أن يكون ماديًا، أو أن يكون بفعلٍ مماثل لما قدمه الصديق. لكنّ الحقيقة أن الرد المعنوي هو الأكثر أثرًا، وهو الأعمق بقاءً. كلمةٌ صادقة قد تكون أعظم من هدية، وكتابة وفاءٍ قد تساوي في قيمتها ما لا تساويه الأموال. ومع ذلك، يغفل الكثيرون عن هذا النوع من الوفاء، حتى فقدناه في زمنٍ طغت فيه الماديات، وأصبح الصدق عملة نادرة.
إن نسيان الجميل خيانة صامتة، والخذلان جرحٌ عميق لا يلتئم سريعًا. ولعلّ ما يجعلني أكتب هذه الكلمات هو خوفي من أن أقع في فخ النسيان أو أن أكون جحودًا لا يعترف بالفضل. لذلك أسطّر هذا النص اعترافًا بالعطاء، وتوثيقًا لقيمة الأصدقاء الذين كانوا دومًا إلى جانبي.
الأصدقاء الحقيقيون ثروة لا تقدَّر بثمن. قد نخسر مالًا أو منصبًا أو فرصة، لكننا إن فقدنا صديقًا صادقًا فقدنا جزءًا من ذواتنا. لذلك سأظل ممتنًا، ما حييت، لتلك الأرواح الجميلة التي آمنت بي حين ترددت، وساندتني حين ضعفت، وشاركتني فرحة الإنجاز حين اعتقدت أن الطريق موحش.
وإنني لأدعو الله أن يديم هذه الصداقات، وأن يرزقنا دائمًا القدرة على رد الجميل ولو بالكلمة الطيبة، وأن يجعلنا ممن يشكرون الناس ليكون فيهم الخير كله.