منذ الطفولة... كانت مودة أكثر من مجرّد فتاة حي.
كانت ظلًّا يمشي معي حين تتعثر الأيام،
ونجمةً تهتدي بها روحي كلّما داهمها ليل الحيرة.
لم تكن صديقة فحسب، بل كانت رفيقة الدرب، وسرّ الطمأنينة،
وجهًا لا يعرف العبوس،
وصدرًا لا يضيق،
وقلبًا لا يُجيد الهجر.
كنت أهرع إليها كلّما اختنقت،
كلّما احتجت أن أقول شيئًا، أيّ شيء...
هي لا تملّ الإصغاء،
ولا تُجيد لغة الجسد حين تُعلن الملل،
كانت تحترف البقاء،
تمامًا كما تُجيد الوردة أن تظلّ فاتنة رغم الغبار.
لم أكن أخشى العالم،
بل كثيرًا ما اختلقتُ الأزمات لأستنجد بها،
لأراها تُنقذنا بحلولٍ تشبه السحر،
كأنها تُفاوض القدر من أجلنا.
وذات مساءٍ لم أخطط له،
كنت أُنسق اجتماع الجمعية العمومية بلجنة الحي،
وكان من بين الأسماء... "مودة".
كدت لا أصدق،
هل ستأتي؟
وهل ما زالت هي... كما كانت؟
جاءت.
لكنها لم تكن مودة الصغيرة التي غادرتها.
كانت امرأة جاوزت منتصف العمر،
لكنها تحمل في عينيها ذات الأمل القديم.
تمشي بثقةٍ من يعرف الطريق،
وتتحدث كمن يعرف ماذا يريد الغد من اليوم.
عشرون عامًا؟
لا... بل أكثر.
ثلاثة عقود وأنا هناك، في بلدٍ آخر،
أبحث عن الشفاء لأمي،
ثم عن تأقلمٍ مفاجئ طال حتى ظننت أنني لن أعود.
تركت مودة وهي زهرةٌ ندية،
وعُدت لأجدها شجرة عالية،
أنشأت أسرة،
وأقامت بيتًا من تعبٍ وحلم.
لكن شيئًا واحدًا لم يتغير...
هي لا تزال مودة.
وحين التقينا بعد العمر،
كان العناق طويلاً كالغربة،
وكان الكلام دافئًا كالأمس،
كأنّ الزمان تأدّب أمام هذا اللقاء،
وتراجع إلى الخلف كي لا يفسد لحظةً انتظرناها دون أن ندري.
عدنا نضحك،
نسترجع المواقف،
نلملم الذكريات من زوايا القلب،
كأننا نُرمم شيئًا من ذواتنا.
هي لم تُغادر قلبي أبدًا،
وإن غابت عن عيوني طويلًا.