أصوات تتناهى إلى سمعي على نحو ضبابي، وكأن هناك حاجزاً يمنعها من الوصول، ما بين الوعي واللاوعي أتأرجح، وأنا مستلقٍ هناك أرضاً، أحاول جاهداً لأجبر جفني على الابتعاد عن بعضهما البعض ولكنني لم أستطع، برد يلسع أوصالي يكاد يجمدني، وبلل يغرقني من رأسي حتى أخمص قدمي، حاولت رفع يدي لكي أحتضن نفسي طلباً للدفء ولكنني فشلت، شعرت بمادة لزجة تغطي يديّ، إذا لم يكن البلل ماءً، ما هو يا ترى؟
استسلمت أخيراً وأصغيت السمع لما يقولون، همساتهم رغم ضبابيتها، إلا أنني شعرت بها كدوي رعد يصم آذاني، ومن بين ذلك الضجيج سمعت أصواتاً متفرقةً معظمها يقول؛ كيف خرج حياً؟ وآخر يهتف أنظروا إنه يتنفس! وآخر يا للمعجزة كيف استطاع البقاء حياً كل هذه المدة! ورابع يقول يا له من وغد محظوظ، لولا أنه كان متمسكاً بتلك العصا لما نجا! وخامس يهتف صارخاً بذعر: انظروا كم هي ضخمة؟ ما الذي يقصده يا ترى؟
غرقت ثانية في غمامة اللاوعي لبرهة من الزمن لا أدري مدتها، ثم عدت على ذات الضجيج وعصي تلكزني دون أن تجرأ الأيدي التي تحملها على لمسي، وكأنني شخص موبوء إن لمسوه فسيلقون حتفهم، يا ترى ما الذي حدث لي؟ ولماذا يصرخون جميعاً بهذا الشكل؟ أنهك التفكير عقلي، وجسدي مصاب بالوهن لدرجة أنني لا أستطيع التركيز على فكرة واحدة أكثر من جزء من الثانية، أود الاستسلام للنوم اللذيذ، ولكن أصواتهم تمنعني.
فتحت عيني ثانية في محاولة لمعرفة ما يدور حولي، وجدتني ألتحف السماء وأفترش أرض غابة غناء، تحيطني الأشجار من كل جانب، وكأن ما رأيته أعادني إلى حيث كنت قبل استيقاظي هنا.
قبل يومين...
رنين هاتفي يعلوا بإلحاح شديد، تركته يصرخ حتى عاد لصمته من جديد، ولكنه عاد ثانية ليطرد آخر أمل للعودة للنوم، مددت يدي نحوه وأنا أسب وألعن المتصل لأنه أيقظني، ضغطت زر الإجابة وبصوت ناعس همست: ألو...
- هيا فلتنهض يا كسول، سنذهب اليوم في رحلة إلى غابات الأمازون، لم نأتِ كل هذه المسافة حتى هنا لتمضي الوقت في النوم، قالها صارخاً مما جعلني أبعد الهاتف عن أذني كي لا أصاب بالصمم.
- عن أي غابة تتحدث يا علي؟
-ماذا بك يا عمرو؟ يبدو أنك لا زلت تظن نفسك في بلدك يا غبي، لقد دفعنا كل ما نملك لكي نزور هذا المكان، لن أتركك الآن لتضيع وقتنا، هيا جهز نفسك دقائق وسنكون على باب غرفتك، ثم أقفل الخط بوجهي وتركني مذهولاً مما قاله.
اعتدلت في جلستي على السرير وأنا أطالع المكان من حولي، يبدو أنه كان صادقاً، فهذا ليس بمنزلي، إنها غرفة فندقية على طراز السفاري، على شكل كوخ ذا سقف مصنوع من القش والخشب، استغرقت بضع دقائق حتى أستوعب المشهد الذي أحياه، ونفضت عن عيني غلالة النعاس وأنا أفركهما بكف يدي، ثم عاد لوعيي كل ما حدث.
لقد جمعت كل ما استطعت جمعه من أموال خلال شهور عملي السابقة، لكي آتي في رحلة العمر التي كنت أحلم بها منذ صغري، فأنا عاشق للطبيعة وكل ما يمت لها بصلة، وأكثر ما أعشق هو الأفاعي، حتى وإن لم أتعامل معها سابقاً، واليوم هو اليوم الموعود، سنذهب في رحلة لاصطياد بعضها.
قفزت من سريري كمن لدغه عقرب، وارتديت ثيابي بسرعة البرق، صنعت كوباً من القهوة السريعة على عجل، رشفته بسرعة حتى أنه لسع لساني، وما كدت أنتهي حتى سمعت طرقاتهم على باب حجرتي يكادون يخلعونه من مكانه، فتحت الباب وجدت علياً مرتدياً بنطالاً كاكياً وقميصاً قطنياً بذات اللون، وحذاءً رياضياً يناسب رحلات السير الطويل، وعلى رأسه يضع قبعة من القش، لقد كنا نرتدي ذات اللباس، خبط كفه بكفي وقهقهنا ضاحكين قبل أن نخرج والحماس يشتعل في أوردتنا.
التقينا براجو؛ دليلنا السياحي الذي استأجرناه ليعلمنا كيف نصطاد الأفاعي، زودنا بالمعدات اللازمة من عصي معدنية تنتهي بخطافات، وشبكات مصنوعة من الخيوط المتينة، حملنا حقائبنا وانطلقنا في رحلتنا ونحن نلكز بعضنا بين فينة وأخرى والغابة تردد صدى ضحكاتنا.
صعدنا هضاباً وأصابتنا جروح عدة بسبب عدم انتباهنا ونحن ندخل أجمة ذات أغصان متشابكة، لسعنا البعوض في كل أنحاء جسدنا، ولم تمنعه ملابسنا من فعل ذلك، لقد كان بعوضاً كبير الحجم، بإبر وكأنها السهام المنيعة، يخترق جلودنا ويمتص دماءنا دون رهبة منا، صنعنا طعام غداءنا على لهيب نار المخيم، وأمضينا ليلتنا ونحن نغني دون توقف حتى أنهكنا التعب فغفونا في أماكننا.
في الصباح استأنفنا رحلتنا من جديد، صعدنا جبلاً آخر ولم نفوت لحظة دون تصويرها؛ لأن لا أحد سيصدق أننا ذهبنا كل هذه المسافة، ففي بلادنا كنا الشابين المنطويين على ذاتهما، اللذان لا يخرجان أبداً في أي رحلة مهما كانت مثيرة للحماس، لقد كنا نوفر كل قرش نعمل به لنذهب في رحلة عمرنا.
بين فينة وأخرى كان يصرخ بنا راجو بإنجليزيته المتعثرة طالباً أن ننتبه أين تدوس أقدامنا، فالغابة خطيرة ولا تخلوا من الحيوانات والزواحف القاتلة، وأخطرها الثعابين شديدة السمية التي نحن بصدد صيدها، كان يتقدمنا وبيده سيفه يقطع الأغصان المتشابكة أمامنا، يسير بظهر شبه منحنٍ، وبخطوات حذرة، عينٌ كعين الصقر تنظر نحو موطئ قدمه، وأخرى تراقب الأغصان التي تصفع وجوهنا في كل لحظة فيتفاداها بمهارة فائقة، ونحن نفشل في كل مرة ونضحك ملأ أفواهنا كلما ارتطم أحدها بوجه أحدنا.
وصلنا أخيراً إلى البقعة المنشودة، بقعة تشتهر بأنها تغصُّ بجحور الأفاعي، أما فراخها؛ فتنتشر أرضاً تزحف هنا وهناك دون قلق، ما أن وطئت قدمي ذلك المكان، حتى قفز قلبي من مكانه حين رأيت إحدى الأفاعي متوسطة الحجم تتجه نحوي دون هوادة، ورحت أتقافز كالجندب صارخاً، مما جعل علي يسقط أرضاً من شدة الضحك، وهو يقول من بين شهقاته: قلت لي تريد صيد الأفاعي وتخاف من ثعبان لا يزيد طوله عن النص متر؟ ماذا ستفعل إن هاجمتك أناكوندا؟!
- أناكوندا؟ وهل الأناكوندا موجودة هنا حقاً؟ قلتها بذعر.
- ضحك علي ثانية وهو يخبط كفاً بكف، ثم قال: يا لك من جبان، لا ليس هناك أناكوندا أنا أمازحك لا أكثر.
أمضينا النهار بطوله ونحن نصيد الثعابين، ونتعلم من راجو كيف نستخلص سمومها التي يجمعونها لصناعة الأدوية، ومن ثم نعيد إطلاق سراحها بعد وضع علامة عليها، لكي لا يعود غيرنا لاستخلاص سمها قبل مدة من الزمن، في البدء كنت أسمع نبضات قلبي كالطبول تدق داخل صدري، ورويداً رويداً تلاشى الخوف وبقي الحماس، الأفاعي مخلوقات جميلة جداً، سبحان خالقها، لا تؤذي إلا من يؤذيها، ونحن لم نكن لنفعل، كل هدفنا أن نستمتع ونتعلم، أو هذا ما ظنناه..
هبط الليل علينا وغفونا بعد أن أنهكنا التعب، صحوت فجراً، وما زال الظلام مخيماً على المكان، خرجت من خيمتي وأنا أمدد جسدي الذي تيبس من النوم على الأرض، وهناك رأيتها، كانت دائرتان من النور الوهاج تسطعان أمامي، تتحركان يميناً ويساراً وتتجهان نحوي، لم أستطع تبين حقيقتهما في ذلك الظلام، اقتربت أكثر مني وعلى ضوء نار المخيم التي ما زال لهبها يتراقص لمع جلدها، صرخت من شدة الذعر ورددت الغابة صدى صوتي، فزع راجو الذي كان مستلقياً بجانب الموقد من نومه، وخرج عليٌ راكضاً، وسقطت أنا أرضاً أتراجع للخلف زاحفاً، وهي لا تزال تتجه نحوي بإصرار.
أفعى تفوقني طولاً بأمتار عدة بفكين عريضين، ورأس مدبب، ولسانها يمتد لي متشمماً رائحتي، وأنا أكاد أشل من شدة الرعب، حاولت الهرب ولكنني لم أستطع، وآخر ما أذكره أنها أمسكت بساقي وراحت تشدني نحوها ويدي تحاول التمسك بأي شيء ولم تجد سوى تلك العصا، حسناً ماذا حدث بعد ذلك؟!
فتحت عيني ببطء محاولاً تبين المشهد الذي يدور حولي، ما زال الناس يتجمهرون حولي والدهشة بادية عليهم، هتف أحدهم، فلنحمله بعيداً قبل أن يراها ويموت خوفاً، امتدت الأيدي نحوي وحملوني على لوح خشبي وأخرجوني من المكان
.....
بعد عدة أيام...
صحوت من نومي على رائحة المعقمات التي تفوح في المكان، وطنين الأجهزة الطبية التي تعلن حالتي في كل لحظة، والألم الذي يجتاح أضلعي لأجد يد علي تمسك بيدي، ورأسه غافياً على طرف سريري، ضغطت برفق على يده، لينهض فزعاً، عمرو وأخيراً صحوت! كنت أظنك لن تفعل، قالها بلهفة وهو يحتضنني بكل ما فيه لدرجة آلمتني فتأوهت بوهن، فوجدته يتمتم معتذراً: آسف لقد نسيت أن أضلعك مكسورة من شدة فرحتي.
- سألته مستفسراً: ما الذي حدث أخبرني؟
- أحقاً لا تذكر؟
آخر ما أذكره هو أنها كانت تمسك بقدمي، ويبدو أنني فقدت وعيي حينها.
- لا أعرف إن كان عليّ حقاً إخبارك، ولا أعرف إن كنت ستصدقني، ولكنني سأريك، قالها وهو يمد يده نحوي بهاتفه، لأجد مقطعاً منشوراً على صفحات الإنترنت، لثعبان ضخم يحيطه القرويين من كل جانب، وهو يتلوى ألماً ويتخبط جسده في كل مكان قبل أن يستفرغ جثة ما، وعندما اقترب التصوير أكثر، لم تكن تلك جثة، بل كنت أنا!
سقط الهاتف من يدي، وتعالت نبضات قلبي حتى كاد ينفجر، وإذ بالأطباء يجرون نحوي بفزع في محاولة لتهدئتي، ما هي إلا لحظات حتى عدت ثانية لنومي.
بعد عدة أسابيع وبعد أن التأمت كسوري وتماثلت للشفاء، عدت من رحلتي تلك وقد اتخذت قراراً ألا أخرج من وطني مرة أخرى، فلتذهب السفاري إلى الجحيم، وسحقاً لكل من يسعى للمغامرة، ربما هذا ما قد تظنون أنني فعلته، ولكن لا لست أنا من يتراجع، ماذا سيصحدث لي أكثر مما حدث؟!
لقد قررت الاستقرار في الأمازون وجهزت كل الأوراق اللازمة لذلك، وتتلمذت على يد راجو، والآن مضت على هذه الذكرى سنوات عديدة وما زال الناس يدعونني بالمحظوظ، وأصبحت دليلاً سياحياً شهيراً ومدرباً على صيد الأفاعي.
النهاية