في غابة بعيدة، كانت تقف أمي شامخة كالطود، بفروعها المتنامية وثمارها اليانعة، محاطة بالخضرة من كل جانب، وأنا أمتع بصري بتلك السهول المترامية على مد البصر والأشجار الدائمة الخضرة، لقد كانت أمي أطول الأشجار، فكان المنظر أبدع ما يكون من الأعلى، ولكنني كنت دائم السخط والملل، فيوماً بعد يوم لم يعد هناك جديد، أصبحت جميع الأشياء معتادة، أصحو كل يوم لأرى نفس الأعشاب، وتنقرني نفس الطيور وإن تبدلت بين الفصول، ولكن ما كان يمتعني هو تلك القصص التي ترويها الطيور المهاجرة، عن بلاد بعيدة فيها أشياء جميلة، عن مخلوقات صغيرة دافئة، قوية رغم ضعفها، قوية رغم ضآلة أحجامها، وأحياناً قاتلة رغم أنها لا تملك مخالب ولا أنياب، ولكم كنت أحلم بامتلاك جناحين صغيرين لكي أستطيع الطيران ورؤية ما تصفه تلك العصافير، ولكن قدري كان الثبات في مكاني.
في أحد أيام الشتاء الكئيبة كنت لا أزال في نومي وأنا أحلم بكل ما أخبرتنيه الطيور، أرى مبانٍ ضخمة مصنوعة من الحجارة، دافئة رغم برودة صخورها، بداخلها همسات حنونة، وأحياناً مرحة، ومخلوقات صغيرة تلونها بذكرياتها، حينما سمعت ضجيجاً حاداً، تلاه ألم شق قلبي، نظرت لأجد مخلوقاً معدنياً عملاقاً، ذا أسنانٍ معدنية حادة كان ينشبها في جذر أمي ويجتثني منها ويلقيني صريعاً، لم يكفه ذلك بل أزال عني كل أخوتي وأوراقي، ثم جاءت مخلوقات قصيرة مسطحة تزمجر بصوت مرعب، وتنفث دخاناً أسوداً يشعرني بالاختناق، هيئتها لا تشبه أي من الحيوانات التي كنت أشاهدها في الغابة، حملتني فوقها وسارت نحو المجهول.
رغم الخوف الذي نشب مخالبه داخل روحي، إلا أنني قررت أن أفعل ما كانت تطلبه مني والدتي دائماً؛ حسناً لن أنظر نحو تلك الأزهار التي سقطت أرضاً، بل سأرى تلك التي أصبحت ثماراً لذيذة، ربما سأرى أخيراً ما كانت تصفه تلك الإوزات المهاجرات، وسأسمع ما كانت ترويه السنونوات، وأطرب بما كان يغنيه الكروان، مضى الوقت وئيداً وأنا أتطلع بانبهار نحو كل ما يمر بنا، رأيت أشخاصاً قصار القامة يتحكمون بمخلوقات حديدية ضخمة، وهي تنصاع لأوامرهم بلا حول ولا قوة.
بعد وقت طويل توقف المخلوق الذي أركبه أخيراً، كنت متحمساً للغاية للتجربة الجديدة التي أنا مقبل عليها، ولكنني تفاجأت؛ ففي ذلك المكان الذي وصلنا إليه لم أرَ أشجاراً، بل وحوشاً معدنية تبتلع أخوتي لتخرجهم من جهة أخرى بعد أن تقطعهم إلى أجزاء صغيرة، شعرت برعبٍ هائل وأنا أراهم يتناقصون واحداً تلو الآخر ولم يتبق سوى القليل منا.
اقترب مني أحد تلك المخلوقات القصيرة، ولمسني بيده، ثم أحضر شيئاً ما ومدده على طولي ثم قال: لا تقطعوه فلدي له مخطط آخر، أحضر شيئاً معدنياً ذا رأس مدبب كفرع شجرة رفيع جداً، ولكنه صلب للغاية، اقترب مني، وببطء بدأ ذلك الشيء يغوص في أعماقي حتى اخترقني، رغم الألم إلا أنني أصبحت أجمل بعد أن ثبتوا في أعلاي شيئاً كصندوق صغير، مُكن بداخله ما يشبه البرتقالة بحجمه ولكنه شفاف ورقيق للغاية.
نقلوني بعدها إلى الأرض مرة أخرى، ورسخوني بمكان مظلم ناءٍ لا يمر منه الكثير من المخلوقات، شعرت بوحدة قاتلة فلا عصافير مزقزقة تقترب مني وتلاعبني بمناقيرها إلا فيما ندر، ولا أشجار في المكان لنتحادث سوياً، وكان أكثر ما يثير دهشتي؛ تلك الشمس الصغيرة التي تبزغ مني عندما يحل الظلام في كل ليلة!
أصبحت كئيباً جداً، أكاد أموت كمداً وأتمنى لو عدت لغابتي التي كنت أبغض، لقد عرفت الآن أنها كانت جنة ولكنني لم أدرك ذلك إلا بعد أن فات الأوان، ليتني ما تمنيت فراقها! ذات يوم حتى شعرت بشيء يحفر جذعي، فنظرت للأسفل منزعجاً ولم أكد أفعل حتى غاب الانزعاج وحل محله غبطة غريبة؛ فقد رأيتهما، لقد كانا يشبهان تلك المخلوقات التي جلبتني إلى هنا، ولكن أحدهما له شيء يشبه خيوطاً حريرية بلون العسل يمتد من رأسه إلى وسطه، وله ضحكة تجعل الميت ينبض حياة، والآخر يحتويه بداخله كما تحتوي تجاويف الشجر أعشاش الطيور، كان يحمل بيده شيئاً فولاذياً مدبباً ويحفر قلباً يودعه حرفيهما، وهي تطالعه بعينين دامعتين فرحاً، وابتسامتها تكاد تنير عتمة الليل أكثر من شمسي.
اعتدت أن أستمع لضحكاتها الخجولة كل مساء، وضحكاته الجسورة عندما يرى ارتباكها وهو يهمس لها بكلماته الشجية، أدمنت لمساتهما الحانية وهما يتكئان عليّ، هو بظهره الصلب وهي ببشرتها اللينة التي تشبه ملمس ظبية صغيرة لحظة ولادتها، أستمع لهمسهما المحبب وهو يخبرها بحبه، وهي تجيبه بخجلها، حتى في تلك الأوقات التي كانا يتخاصمان بها عشقتها، فقد كان يأتي كل منهما لوحده، يتكئ عليّ بألمه يناجيها بهمسه الحزين، ويعاتبها ويبثني أشواقه، أما هي فقد كانت تأتي محملة بآلامها، تبلل جذعي بدموعها الطاهرة، وهي تحتضنني بجسدها البض، وتتلمس ذلك القلب الذي حفره بداخلي لأجلها بأناملها، فأشعر أن الحياة دبت بي من جديد، أما حينما يتصافيان ويحتضنها تحت خيوط أشعة شمسي، فقد كانت تغشاني حالة فريدة من البهجة، ولولا أنني لا أملك ساقين لقفزت فرحاً.
شاركاني كل شيء في حياتيهما، وكنت خير حافظ للسر؛ كل خططهما المستقبلية، ملامح أطفالهما وأسمائهم، حتى لون عيونهم، بل وشكل فستان زفافها، لقد حفظت كل تفصيلٍ ورحت أتخيل تلك الأشياء التي يتحدثون عنها، وأسلي نفسي بذلك طوال النهار وشمسه تحرقني بلظاها، لقد كنت أنسى ألمي الذي مررت به ووحدتي بهما.
في أحد الأيام، وأنا أقف مكاني كالصنم أنتظر بلهفة رؤية الشمس وهي تلون السماء بلون يشبه لون وجنتي تلك المخلوقة عندما يقول لها أحبك، لكي يأتيا ويؤنسا وحشتي بالدفء المشع منهما، جاء مخلوق يشبههما ولكنه أقصر، يبدو على ملامحه الخبث والشر، يحمل بيده بضعة أحجار بأحجام مختلفة، ألقى أحدها باتجاهي حاولت تفاديه، ولكن كما تعلمون فأنا لا أستطيع الحركة، وإذ بي أسمع صوت انفجار صغير وتتهاوى شمسي تجاه الأرض بعد تحولها إلى قطع صغيرة، وما أن رآها تتهاوى، حتى قهقه ضاحكاً وهو يهتف: لقد فعلتها وبرمية واحدة، يا لي من محترف!
في تلك الليلة جاءا، جلسا قليلاً وتحادثا، ولكنه لم يستطع رؤية ضحكتها ولا أنا رغم شعورنا بها، وفي اليوم التالي وجدتهما يقفان بجانب أخي الذي يجاورني، هو يحفر اسمهما مجدداً على جذعه، وكأنه يخبرها أنهما سيظلان معاً أينما حطت رحالهما، وأنه سيخلد كل لقاء لهما أينما كانا، ولأول مرة أتمنى الشر لغيري، كنت أتمنى أن تُفقأ شمسه وتعود شمسي لكي يعودا إليّ ولكن هيهات.
بعد فترة طويلة شعرت بها بالألم والغيرة الشديدة من أخي، واكتشفت كم أنني حقود، تنبه أحد تلك المخلوقات أن شمسي مفقوءة، فأعاد إلى شمسي وهجها، كنت أظن أنهما سيعودان فوراً لأحضاني، سيعيدان لقلبي الذي تجمد منذ فارقاه دفئه، ولكنهما لدهشتي الكبيرة لم يعودا! لقد اعتادا الجلوس على ضوء شمسه هو، لكم أشعر بالوحشة والوحدة وهما بعيدان هكذا، ولكم أحقد على ذلك المخلوق الشرير الذي فرقني عنهما.
منذ ذلك اليوم عرفت، أن لا أحد يحبك حينما تخفت شمسك، جميعهم يتحلقون حولك طالما كنت مشعاً وهاجاً، يستمدون منك النور والبهجة والدفء، يلقون لك بآلامهم وأحزانهم، ويشاركونك أتراحهم قبل أفراحهم، يجعلون قلبك ينبض فرحاً لأجلهم ويطعنونه بأحزانهم أيضاً، وحالما تفقد سطوعك يرحلون، لا أحد يحتمل سوادك، الجميع ينسون كل تلك الأوقات التي بذلت من روحك لتنير لهم الطريق، الجميع يتخلى عنك لحظة انهيارك، وبمجرد أن يجد البديل ينساك وكأنك لم تكن، منذ تلك اللحظة قررت أن أكسر شمسي بنفسي وألا أجعلها تنير لأحد، فمن يريدني ليحبني كما أنا بعتمتي، ببردي القارص وقلبي المكسور، ليرممني بيده ويعيد لي الدفء والنور، حينها سأشع لأجله، أو فليمضِ في طريقه ولا يتعبني معه.
النهاية