هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة جهاد غازي
  5.  حريتي أنت - قصة بقلم جهاد غازي

الكاتبة: جهاد جودة

لقد سلبوني وطني، أبي، عائلتي، بيتي، حتى أنهم استكثروا علي حريتي، ولكنهم لم يستطيعوا سلبي إياه؛ لقد كان بنظرهم شيئا قذرا مرعبا يخشون لمسه، وبالنسبة لي كان كنزي الثمين ومفتاح حرية روحي، أجل.. إنه ذلك الكيس البلاستيكي الذي يحمل بقايا لمستك، لمسة واحدة له كانت تكفي لتختفي تلك الجدران المغطاة بالدماء من حولي، ولتتسلل رائحتك الشهية رغم الطين الذي يغطي ملابسك المغبرة ورائحة الموت التي تفوح حولنا، وحتى الآن فإنها تطغى على رائحة القاذورات التي تفوح في هذا المكان الضيق كقبر، تعبق لتنعش حواسي وتحملني على أجنحتها نحو ذلك اليوم الذي جاءت فيه المعونات إلى مخيمنا، فتسللت بين الجموع الغفيرة لأخطف لك قطعة من الشوكولاتة فأنا أعرف مدى عشقك لها.

فعلتها أخيرا.. صحيح أنها كانت صغيرة للغاية ولكنها كانت كافية لرسم ضحكة على وجهك الملائكي، أكلتها مغمضة العينين ببطء شديد وتلذذ ظاهر، وأنا أجلس مقابلا لك أطالعك بشغف، وكم ضحكتي حينما مددت يدي والتقطت الكيس الفارغ الذي ألقيته أرضا ليغرق بالطين وأنت تقولين: ماذا تفعل؟

أجبتك ببلاهة حينها بأن المعلمة في الروضة التي كنا نذهب إليها قبل أن تتحول إلى أنقاض قالت: لا تلقوا الأوراق على الأرض! ضحكتي أكثر وأنت تقولين بحسرة: أي أرض تلك التي تود الحفاظ على نظافتها! لقد شوهتها أشلاء المباني المغطاة بدماء الشهداء ونثرات لحومهم المحترقة ودمائهم الجافة.

أخفيته في جيبي بخفة، وألقيت نكتة سمجة-لم أعد أذكرها- على مسمعك لأرسم ضحكتك من جديد، ضحكتك التي كانت كسيمفونية بالنسبة لي تحملني كسحابة مطيرة إلى سماء بهية الألوان، سرنا يدا بيد وأنت تمسكين بنطالك من طرفه، ترفعينه قليلا لا تريدين أن يغرق في الطين أكثر، وأنا أسير بجانبك كقائد حرب انتصر توا وربح رفقتك.

يا له من يوم! أيا ترى ما زلت تذكرينه؟ أم أنك نسيتيه ونسيتيني معه كما نسيني العالم وتركني لأتعفن هنا بين هذه الجدران الكئيبة؟

خمس سنوات مرت على سجني، وعشرون عام مضى على تلك اللحظة، وما زلت أعيشها مرة تلو أخرى ليلة بعد ليلة وكأنها تحدث الآن، هي الوحيدة التي أبقتني على قيد الحياة، كانت وما زالت طوق نجاتي وبلسم جراحي بعد ليالي التعذيب الطويلة.. لقد أذاقوني كل أنواع الألم حرقوا جسدي بسجائرهم، وصعقوه بالكهرباء حتى تشنج، اقتلعوا أظافري واحدا تلو الآخر، وتركوني على ذلك الكرسي محني الظهر ورأسي للأسفل مقيدا لساعات طوال، ولم يستطيعوا كسري، هم لا يعرفون أنك.. وضحكتك، وذلك الكيس الصغير سر قوتي، وطالما هو بحوزتي سأظل قويا بك..

كل ما أتمناه ان أراك ولو للحظة، بعدها سأستلم للشهادة، وأسلم روحي إلى بارئها، فعندها سأكون قد اكتفيت من الحياة وأخذت منها سعادة أكثر مما قد تمنحه لأي بشر.

 

*هي*

 

وكأن الوقت تجمد هناك وضحكتي معه أيضا.. يبدو أنني نسيت كيف أضحك بدون وجودك قربي، لقد كنت دوما الوحيد الذي يعرف كيف يرسم البهجة على قلبي قبل شفتي، لأجلك مضيت، وابتعدت لأجل وعد أجبرتني على قطعه لك قلت لي لا تفعليها يا جميلتي، لا تدعيهم يعرفون أنك نقطة ضعفي فبكِ وحدك أكسر.

ابتعدت.. ولم أزرك في سجنك ولا حتى مرة واحدة، ولكنك تزورني كل يوم في أحلامي، في صحوي ومنامي لا أحد يشغلني سواك، دعائي لك هو أول ما يردده لساني عندما أصحو، وصورتك وابتسامة عيناك هي آخر ما يداعب جفوني قبل منامي، وصوتك الحاني وأنت تهدهدني لأغفو رغم صوت القنابل التي كانت تحيط بنا لا يزال يترنم بين أضلعي، يمنحها دفقا من الحياة والقوة.

أكملت تعليمي كما أردت دوما، كنت تخبرني أنني بلسم للجراح لذلك أصبحت ممرضة، تطوعت مع الصليب الأحمر لكي أستغل فرصة دخولهم للسجون لكي أتسقط أي خبر يطفئ نيران القلق التي تلتهم قلبي، ويتحول أمامها لكومة قطن تشتعل بشرارة، ولكن هيهات.. لقد درت كل السجون ولم أجد لك أثرا وكأنك تبخرت.

غدوت بلسما كما أردت، وخففت عن أصحابك ورفاقك في السجون آلامهم، وأنا أتمنى أن يخفف أحدهم ألمك وأن يبقيك على قيد الفرح لأجلي.

كلما سمعت أن الأسرى يتعرضون للتعذيب أجدني أنزوي في غرفتي، وأطلق لأنهار عيوني العنان، أصلي وأسجد بلا كلل، ولا أتوقف حتى ينهار جسدي من التعب وأنا أدعو الله أن ينجيك ويعيدك إلي سالما، وكل مرة أسمع أن هناك عفوا عن السجناء، أقبع بجوار المذياع بلا حركة، أسجل أسماء الأسرى اسما.. اسما، وأعيد قراءتها آلاف المرات بحثا عن اسمك، وأقول ربما فوته! فأنثر الصحف من حولي وكل قائمة تسقط تحت يدي، ولا أجدك فأسقط باكية على سريري المبعثر كنبضي في غيابك، ولسان حالي يقول: أيا مهجة قلبي كن بخير لأجلي..

ما زلت هناك واقفة كالصنم، في ذلك اليوم الذي أحضرت لي فيه قطعة الشوكولاتة تلك ورفضت تقاسمها معي، قلت لي: كليها أنت وكأنني أنا الذي أكلتها.

ضحكتي التي ملأتها الحسرة بعد التقاطك لذلك المغلف الفارغ؛ هي نفسها التي تحولت إلى سعادة وفرح بعد محاولاتك لإضحاكي، والغريب أنك لم تفشل يوما في فعل ذلك، مع أن نكاتك كانت سمجة للغاية إلا أنها كانت تجعل قلبي ينبض بألوان قوس قزح. 

كنت أسير بجوارك كملكة في حفل تتويجها، تتجه نحو العرش الملكي لتقلد تاجها متبخترة على البساط الأحمر الذي لم يكن سوى دماء شهدائنا الذي خضب الأرض، فرحة ببراءة رغم البؤس المحيط بنا.

آاااه كم مضى على ذلك اليوم! وكم عشنا بعده من آلام! أصعبها كان يوم أسرك، شعرت أنهم قبضوا على روحي وأودعوها في قفص مظلم يحتله الصقيع، وما زلت حتى الآن أقبع بداخله، ولولا وعدي لك لما تركتهم يأخذونك إلا على جثتي، أجبرتني على الاختباء كالجبناء وفؤادي يتمزق لأجلك. 

أيا محمدي لماذا فعلت ذلك؟ أعرف أنهم سلبونا الكثير، ولكن لما تركتهم يسلبوني إياك، ألا تعرف أنك الأنفاس التي تحييني والفرح الذي يزين أيامي والبهجة التي تعبق بها شراييني؟

الوطن، إنه هو جرحك الأكبر الذي ما زال ينزف رغم مرور السنين، جرحك الذي لن يبرأ يوما إلا بتحرير فلسطين،

محمدي أيا نبض فؤادي كن قويا لأجلي.

 

*هو*

 

لا زال صوت ضحكتها الرنانة الذي كان بالنسبة لي كصعقة كهربائية أعادت لقلبي انتظام نبضه بعد أن بعثرته بنظرة يرن في خافقي كناقوس للحياة، يمنحه نبضا كلما خفت نبضه.

ما زلت أذكر أول مرة سمعت ضحكتها تلك، كنا في الروضة سويا، في اليوم الذي سبق البركان الذي تفجر حاملا معه أحلام طفولتنا البريئة، الانفجار الذي حولنا من أطفال بعمر الزهور إلى ناضجين، بل كهولا بهموم تحني الظهور، كانت تلعب ببراءة مع صديقاتها وقد أجلسنها على الأرجوحة كأميرة مدللة، وإذ بضحكتها تصل قلبي قبل أذني، أدرت ظهري بحثا عن صاحبة تلك الضحكة ليطالعني وجهها البسام.

منذ ذلك اليوم عشقتها حد الإدمان، وبات شغلي الشاغل هو افتعال أي موقف وتقليد أي حركة وإلقاء أي نكتة ظننتها مضحكة، حتى لو اضطررت للتحول إلى مهرج، لكي أسمع ضحكتها من جديد، فبعثرتها لقلبي ثم إعادة انتظامه كانت أجمل لحظات حياتي.

تلك الضحكة هي سبب بقائي حتى الآن، كل مرة كانوا يسوقونني فيها لجلسة تعذيب جديدة كنت أغلق سمعي عن أصواتهم وطنين الآلات التي يستخدمونها لكسر شوكتي لانتزاع اعتراف يلائمهم، وأشغل أسطوانة تحتوي على ما جمعته من ضحكاتها طوال سنين أمضيتها برفقتها مرارا وتكرارا، ولم يستطيعوا يوما فهم سبب الابتسامة التي ترتسم على شفتي الداميتين رغم الألم، وكلما رأوها ظنوا أنني أستهزئ بهم وضاعفوا وحشيتهم أكثر فأكثر.

لم أشعر يوما بالألم، فضحكتها التي لا ترتسم على الشفتين فقط، بل كأن الكون بأسره بزهوره وفراشاته وسحبه أيضا، وكل جزء من جسدها كان يضحك معها، كانت تحملني إلى عالم آخر، عالم لا يوجد فيه حروب ولا ألم، عالم ليس فيه إلانا.. هي تضحك وأنا أطالعها بشغف.

حتى في أحلك الأوقات؛ ذلك اليوم الذي أخذوني فيه لحجرة كسر الإضراب حيث الإطعام القسري، فقد قررنا نحن السجناء بعد مشاورات عدة البدء بإضراب مفتوح عن الطعام، فهم يسلبوننا حريتنا بمحاكم وهمية يجددون فيها فترة سجننا قبل انتهائها، رغم أن لا تهم محددة قد قيدت ضدنا، حاول رفاقي ثنيي عن المشاركة في الإضراب، فبنظرهم جسدي النحيل لن يحتمل أكثر مما عاناه، ولكنني صممت على أن اكون أول من يرفع كوب الماء والملح في وجوههم، وأن انتصر لنفسي وأكسرهم أكثر بصمودي. 

شربت الماء والملح لأسابيع، لم يتبق على جسدي سوى طبقة رقيقة من الجلد المثخن بالجراح، وفي كل مرة كان رفيق يقف على حافة الاستسلام؛ كنت اخلع قميصي وأواجهه بشكلي قائلا: أتظن أنك لا تستطيع؟ انظر إلي إن استطعت أنا، فأنت حتما تقدر، أعرف أنهم لا يمتلكون ضحكتك ولا صورتك في خيالهم، ولا يلمسون غلافي الثمين، ولكنك ستكونين قوتهم وقوتي أيضا، أعدك بذلك.

في ذلك اليوم رآني الجندي الحقير وأنا اخلع قميصي وألقي عليهم بعباراتي التشجيعية وأشد أزرهم بها، فقرر أن يكسرني ليكسرهم بي.. اقتادني بلا قميص بعد أن انهال علي هو ورفاقه ضربا وتحطيما بكعاب بنادقهم وأحذيتهم الضخمة حتى لم يتبق جزء مني دون جرح، وما زلت أصرخ سنكسركم بكوب ماء وملح..

أجلسوني على كرسي جلدي ضخم، ثبتوا ذراعي بمسانده وأوثقوا رباطي، فرغم نحولي ما زلت قويا كثور، ثم رأيته يقف هناك في الزاوية ونظرة خبيثة وضحكة صفراء ترتدي وجهه الشبيه بالشياطين، مرتديا معطفا طبيا، تصوروا أن يتحول طبيب من ملاك للرحمة إلى زبانية للجحيم!

اقترب مني حاملا بيده قطعة حديدية لم أعرف الهدف منها، وألقى أمرا لمساعده بتحضير الخليط، لم أعرف ماذا قصد بذلك، انهالوا علي ضربا حتى فتحت فمي متأوها، وأقحم تلك القطعة في فمي لتبقيه مفتوحا، ثم أقحم أنبوبا بلاستيكيا قاسيا في حلقي حتى ظننت حينها أنني أكاد أموت اختناقا، فقدت وعيي لوهلة لأراها هناك ترفع بنطالها وتتمسك بيدي بذات اليد، وكأنها تخاف أن أهرب منها واتركها كما تركتنا أحلامنا، تبتسم لي كملاك صغير ولسان حالها يقول: أنت كل ما بقي لي..

صحوت على سائل ساخن يندفع في الأنبوب، شعرت بدفئه المقيت يلهب مريئي بحرارته، وعرفت بعد ذلك أنه خليط من البيض النيء والحليب الساخن، لم يكن يهمهم كم آذاني ذلك الأنبوب، كل ما كان يهمهم أن يكسروني ويكسروا رفاقي بي، في المرات اللاحقة لم يستطيعوا إجباري على فتح فمي مهما ضربوني، فاستخدموا أسلوبا أشد عنفا وأقحموا أنبوبا عبر أنفي.

حملني اثنان من الجنود الأنذال كل واحد من ذراع، بالأحرى جروني على طول الممر ليراني كل السجناء مذلولا مهزوما ومكسورا، جسدي مغطى بالكدمات الدامية، ولكنني لم أصمت.. ما أن وصلنا آخر زنزانة حتى صحت بكل ما تبقى لي من قوة: كوب ملح وماء أقوى منكم ومن كل آلات تعذيبكم، ستكسرون.. وردد السجناء خلفي ستكسرون.. ستكسرون.. وهم يطرقون القضبان بقبضاتهم الغاضبة، وهذا آخر ما لامس أذناي قبل أن أفقد وعيي وتحملني أحلامي إليها.

 

*هي*

 

كنت دوما درعي الواقي أمام الأحزان، سوري المنيع ضد الذكريات، صدري الحاني الذي ينسيني الكوابيس التي مررنا بها سويا، ومنذ خمس سنوات وأنا أعاني بسبب غيابك، فها هي وحوش ماضي تعود بقوة كل ليلة لتجتاح روحي باعثة الرعب والهلع في أوصالي، ولا تتركني إلا كجثة هامدة هربت دمائها منها رعبا، وجفت دموعها من شدة النحيب.

أذكر أول مرة شعرت بهذا في ذلك اليوم الذي تركت يدي فيه لتحضر لي قطعة الشوكولاتة تلك، شعرت أنني وحيدة جدا في مواجهة اكبر أعدائي.. أجل انا، فانا ومخاوفي كنا ألد الاعداء دوما، كنت وأنا بقربك أنسى كل شيء، وأضحك ملئ روحي، وبمجرد تركك ليدي ولو للحظة، تعود فورا نوبات الذعر والهلع لتجتاحني من جديد، وكأنها تخشاك فلا تقترب بوجودك.

وها هي اليوم تعود أقوى من كل مرة، كنت اجلس أمام التلفاز شاردة أتابع آخر تطورات معركة الماء والملح التي شنها الأسرى، احتجاجا على الأحكام التعسفية بحقهم، لأصحو من شرودي على اسمك المكتوب أسفل الشاشة في شريط الأخبار! وكان ينص الخبر على أنك أمضيت خمس وأربعين يوما بلا غذاء، وبأن اليهود انتهكوا حقك وأطعموك قسرا بحجة إنقاذ حياتك، وقد كان الإطعام الجبري أحد المواضيع التي طرقناها في مادة الحركة الأسيرة في الجامعة، وأعرف جيدا مدى ألمها.

توقف العالم من حولي لجزء من الثانية، وسقطت بعدها أرضا وجسدي يتشنج بطريقة هستيرية، أبكي وأصرخ وبالكاد أستطيع التقاط أنفاسي، لا أعرف ما الذي حدث بعدها يبدو أنني فقدت وعيي.

صحوت بعد عدة ساعات والغرق البارد يغطي جسدي، كنت أراك أمامي جالسا على ذلك الكرسي وهم ينهالون عليك ضربا، وجسدك الذي يبدو كهيكل عظمي، يتشنج بألم وهم يغلقون آذانهم وأعينهم عن ألمك.. لا بل يتلذذون به، كانت نظرة انتصار تعتلي عيونهم الصفراء كعيون الشياطين كلما صرخت، حاولت عبثا إزاحتهم عنك ولم أستطع، كنت أصرخ وأبكي بكل ما في ولا أحد يسمع كأنهم مصابون بالصمم وكأنهم لا يرونني أصلا كنت كشبح غير مرئي اراك ولا تراني وفجأة شعرت بعينيك المحمرتين كالجمر تنظران إلي، تخترقان روحي وكأنهما تقولان لي لا تخافي سأنجو.. حتى وأنت تتألم كل ما يهمك هو طمأنتي!

إلى متى يا محمدي ستتحداهم هكذا؟ لماذا لا تفعل مثل البقية وتتوقف عن القتال لمرة لأجلي أنا؟ فكر بي قليلا أرجوك.. فأنت كل ما أملكه في هذه الدنيا.

كلما قبضت على نفسي وأنا أفكر بهذه الطريقة شعرت كم أنا أنانية، فأنا أرضى بإلقاء كل ما هو وطني عرض الحائط مقابل لحظة تضمني فيها إلى صدرك وتهدهدني بنبضات قلبك، رغم معرفتي أن قلبك لا ينبض إلا بحب فلسطين ولكن هذا هو الحب صفته الأنانية وحب التملك، لكم أغار منك فلسطين لقد سلبتني أغلى ما أملك!

 

*هو، هي*

 

الإضراب ما زال قائما، ولا زالت إجراءات المحتل الهمجية لكسره تتصاعد بضراوة، فتارة يجمعون الأسرى وينهالون عليهم ضربا، وتارة أخرى يتركونهم في الساحات بلا ثياب ونحن في كانون الثاني والبرد القارص يجلدهم جلدا. يحرمونهم من أبسط حقوقهم كبشر؛ فقد منعوا إدخال أي نوع من الثياب والأغطية للأسرى، ولم يمنحوهم شيئا أيضا ليدرئ عنهم الصقيع، ومع ذلك ما زال الإضراب على أوجه، بل امتد حتى انتشر كالنار في الهشيم إلى كل سجون الوطن، وبات لهم أغنية يرددونها كلما شعروا بعزيمتهم تفتر (ألف با بوباية.. مي وملح بكباية....)

بين القضبان كانوا يرفعون أكواب الماء والملح ويشهرون عزيمتهم الصخرية أمام أسلحتهم الفتاكة، ونحن في الخارج كنا نقيم الاعتصامات التضامنية، ونصوم أياما إلا عن الماء والملح لنشد من أزرهم، وبدأنا برفع التماسات لمنظمات حقوق الإنسان لكي يرفعوا الظلم الواقع على أسرانا، شهور طويلة مضت وبدأت أعداد المعتصمين تتضاعف، والضغوطات ضد الاحتلال من المنظمات تزداد.

لم أتغيب يوما واحدا عن الاعتصامات، ولم أفوت أي فرصة للدخول إلى السجن مع منظمة الصليب الأحمر إلا وانتهزتها، قدمت المساعدة قدر الإمكان وفي كثير من الأحيان هم من كانوا يقدمون المساعدة لي؛ فلم أكن أقوى في معظم الأوقات على النظر في عيونهم ورؤية الهياكل العظمية التي باتوا عليها، وأنهار بكاء لأجدهم يربتون على كتفي دعما، ولم يصدف أن التقيت بمحمدي ولا لمرة حتى..

 

......

اقتادوني مرارا لغرفة كسر الإضراب، أطعموني قسرا، ضربوني وشبحوني، بل وتركوني لأتعفن في زنزانة عرضها متر وطولها متر أيضا لا مجال للحركة فيها، كل ما أستطيع فعله هو البقاء وقوفا معظم ساعات النهار، ثم أنهار أرضا لأغفو إن استطعت بوضعية الجلوس، فقد كانوا يتركون ضوء الكشاف مسلطا علي لكي يحرمونني من النوم، ورغم ذلك لم أيأس.. كنت بين الفينة والأخرى أصرخ من تلك الكوة الصغيرة في الباب بأغنيتنا: ألف با بوباية، ليجيبني الرفاق: مي وملح بكباية، وأصواتهم كلها عزيمة وإصرار تزيدني قوة فوق قوة.

وأخيرا رضخوا لنا، بآلات تعذيبهم الوحشية وأساليبهم القذرة لم يستطيعوا كسر عزيمتنا، لقد كسرناهم بكوب ماء وملح، وأجبرناهم على الإفراج عن عدد منا وتحسين ظروف السجناء الآخرين، فرحة عمت البلاد من أدناه إلى أقصاه.

رغم تحولنا لهياكل عظمية مكسوة بجلد مثخن الجراح إلا أننا كنا أسعد خلق الله في ذلك اليوم، وصدحت الزنازين بأهازيج الفرح، وغرقنا في عناقات لا تنتهي، ودموع الوداع لبعضنا، ورسائل الحب المعطرة بالشوق للأهل والأحباب التي حملها الباقون للذين سيعودون لحريتهم، لقد كانت تلك الليلة أجمل ليلة أقضيها في حياتي، واكتملت فرحتي في اليوم التالي حينما جاء سجاني مناديا اسمي بامتعاض، طالبا مني تحضير نفسي فاليوم يوم الإفراج عني.

لم أكن أعلم أنني سأخرج ويبدو أنهم أرجئوا إخباري حتى آخر لحظة لكي يعذبونني أكثر، ولكنهم لا يعرفون أن فرحي بحرية رفاقي أكبر من أي حزن آخر، وأخيرا سأراك حبيبتي.

......

رغم كل ما فعلوه ليوقفوا الإضراب لم يستطيعوا كسره ورضخوا لمطالب الأسرى وصدرت قائمة عفو جديدة، بل سأسميها قائمة حياة؛ فقد كان اسم محمدي يزينها، فهو أكثر الأسرى تضررا من الإضراب، ولم يستطيعوا سوى إطلاق سراحه وإعادة روحي إلي من جديد.

في اليوم الموعود ارتديت أكثر لباس يحبه ثوبي العنابي المخملي المطرز، ثوب يجمعني أنا وفلسطين سويا، واتجهت نحو باب سجن النقب الذي أدرج في القائمة أنه موقع سجنه، وقفت بانتظاره لساعات عدة لكم كانت الساعات ثقيلة على قلبي، تمر وكأنها دهور أطول من كل السنين التي أمضاها بعيدا عني، ظللت هناك واقفة شاخصة البصر، كلما فتح الباب وخرج بطل من الأبطال قفز قلبي في صدري بهجة ظنا أنه هو، ولكنني أعود ثانية بخيبة.

شارفت الشمس على المغيب وهو لم يخرج بعد، بدأ اليأس يدب في عروقي والهلع يكاد يخلع قلبي من مكانه، يا ترى هل تراجعوا عن الإفراج عنه؟ كدت أعود للبيت خائبة، أدرت ظهري وإذ بصرير باب الفرح يزأر من جديد ليفتح مرة أخيرة.. ويهديني إياه.

ركض رجل الإسعاف نحوه وهو يجر كرسيا مدولبا ليساعده، فمن بعيد كان يبدو كظل إنسان أكثر منه إنسانا، ولكنه لوح له مشيرا بالتوقف وأصر على السير.

وقف فجأة عندما رآني وانحنى نحو الأرض في سجدة شكر مقبلا تراب فلسطين، ثم نهض متجها نحوي بخطوات بطيئة، وأنا طرت ركضا نحوه، وقفت أمامه لاهثة بقلب مضطرب دقاته الجذلة تكاد تسمع من بعيد، وعينان مغرورقتان بالدموع والهلع لما آل إليه حاله، وإذ به يبتسم ويبتسم الكون معه، بادرني بالقول: شو مالك فداء لشو كل هالخوف؟ أنا هون معك..

- ظللت على صمتي فرغم ضعفه البادي على محياه ما زال هو قوتي وسندي

- أمسك بيدي برفق ووضعها على قلبه، وأضاف: طول ما هاد بينبض بحبك وحب فلسطين راح أضل شوكة في حلقهم، وما في قوة عالأرض راح تقدر تفرقنا.

 

النهاية

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
إحصائيات متنوعة

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
3↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
4↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
5↓الكاتبمدونة اشرف الكرم
6↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
7↑1الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↓-1الكاتبمدونة حسن غريب
9↓الكاتبمدونة حاتم سلامة
10↓الكاتبمدونة آيه الغمري
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑21الكاتبمدونة رشا ماهر131
2↑19الكاتبمدونة حسن رجب210
3↑19الكاتبمدونة شيماء الجمل141
4↑17الكاتبمدونة خالد دومه114
5↑12الكاتبمدونة اسماعيل ابو زيد78
6↑10الكاتبمدونة احمد زكريا77
7↑9الكاتبمدونة خولة سعيدان171
8↑8الكاتبمدونة علا الأزوك120
9↑8الكاتبمدونة نورا عبد الفتاح68
10↑8الكاتبمدونة صفا غنيم88
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1065
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب686
4الكاتبمدونة ياسر سلمي649
5الكاتبمدونة مريم توركان573
6الكاتبمدونة اشرف الكرم565
7الكاتبمدونة آيه الغمري492
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني420
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين416
10الكاتبمدونة سمير حماد 400

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب327503
2الكاتبمدونة نهلة حمودة183165
3الكاتبمدونة ياسر سلمي175286
4الكاتبمدونة زينب حمدي168038
5الكاتبمدونة اشرف الكرم125991
6الكاتبمدونة مني امين115611
7الكاتبمدونة سمير حماد 105139
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي95792
9الكاتبمدونة مني العقدة93204
10الكاتبمدونة مها العطار86468

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة عبير سعد2025-05-23
2الكاتبمدونة هاله اسماعيل2025-05-18
3الكاتبمدونة محمد عرابين2025-05-15
4الكاتبمدونة اريج الشرفا2025-05-13
5الكاتبمدونة هبه الزيني2025-05-12
6الكاتبمدونة مها الخواجه2025-05-10
7الكاتبمدونة نشوة ابوالوفا2025-05-10
8الكاتبمدونة كريمان سالم2025-05-10
9الكاتبمدونة رشا ماهر2025-05-09
10الكاتبمدونة مها اسماعيل 2025-05-09

المتواجدون حالياً

1251 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع