منذ صغرها وهي تعتقد أن كل ما يحدث لها ليس سوى عقاب، فالله يكرهها حسب قول أمها الذي تصرخ به في وجهها في كل حين، وكلما ارتكبت خطأ طفوليا صرخت معنفة لها، وليتها رحمت طفولتها وروحها المعذبة، فرقت بينها وبين أخوتها حتى ظنت أنها ليست ابنتها، لم يكن أحد يهتم بها، أو بما تشعر به، حتى أن أحدا لم يلتفت لوقع تلك الحادثة على روحها، ولم يهتم أحد بشرح ما حدث لكي يتقبله عقلها الصغير.
لم تكن قد بلغت الرابعة من عمرها بعد، تركض بشعرها الأشقر المهوش في الشارع أمام مدخل منزلهم هي وابنة أختها، تلعبان وتمرحان متضاحكتين، التفتت لتراه فجأة أمامها؛ أخيها الكبير الذي لم تتعرف عليه فعلا، فقد تزوج وهي لا تزال في رحم والدتها، وذهب للعيش في منزل أهل زوجته، كل ما تذكره عنه هو صورة مشوشة عن نزاع وتضارب بالأيدي بينه وبين والدها، وهو يخرج باكيا راحلا عن منزلهم، ومرة أخرى وهو يصرخ في وجهها لكي تبدل تنورتها القصيرة التي ألبسوها إياها عند زيارتهم لأحد الأعمام، فهي فتاة ولا يجوز أن يظهر منها شيء، لم يعرف أن الذنب ليس ذنبها، هو فقط صب جام غضبها عليها.
في ذلك اليوم رأته يحمل بين يديه وعاء بلاستيكيا فيه سائل ما، صب معظمه على جسده ووضع القليل في فمه كأنه كان يغتسل به ويروي ظمأه، ثم وبلمحة عين رأته يشتعل جحيما، ألسنة اللهب تعلو وصراخه يشق عنان السماء، ليسقط متدحرجا على الأسفلت، وتنتهي لحظات رؤيتها له، عندما يسقط من فوق سور الجيران -الذي ينزل عن مستوى الشارع قليلا- أمام كلبهم الذي يعوي بذعر.
اجتمع الناس وعلت الصرخات، وركضت هي نحو أمها دون فهم لما حدث، تطلب منها تلبية نداء الجيران وإحضار بطانية لهم، لتخرج أمها بملابس المنزل راكضة لاهثة، وهي تحمل بيدها بطانية لا تعرف أنها ستتحول فيما بعد كفنا لبكرها، حينما سمعت الناس ينطقون اسمه باتت كالمجنونة، ركضت خلف سيارة الإسعاف بفردتي حذاء مختلفتين، وبحجاب بال، ولم تعد للمنزل سوى بعد الغروب.
كانت الدموع قد صنعت أخاديدا في بشرتها السمراء، وحفرت حزنا أبديا في عينيها، يومها قال الجميع؛ لقد مات وارتاح، وفي اليوم التالي صنعوا وليمة كبيرة، ودعوا الجميع لتناول طعام لذيذ، لم تعرف مما ارتاح ولم تعرف ماذا يعني الموت، ولكنه كان يمثل بالنسبة لها وجبة لذيذة، واجتماع لكثير من الناس.
مرة أخرى بعد عدة سنوات، جاءهم خبر أن أختها الكبرى تم نقلها للمشفى، ذهبت أمها مسرعة دون أن توضح لهم شيئا، كل ما فعله أخيها الذي يكبرها ببضع سنوات أنه جمعهم معا، وبدأوا بوصلة بكاء طفولي، والدعاء لأختها بالشفاء، وتتمنى لزوجها الموت.
في اليوم التالي، قالوا أن أختها شربت سما لترتاح من حياتها المؤلمة، ولأن والدها رفض إعادتها إلى كنفه بعد تعرضها للضرب على يد من يسمى زوجا، تذكرت حينها اجتماع بضعة رجال في ساحة منزلهم، وصراخ أخيها الأكبر، وإلقاءه لقطعة كبيرة من الزجاج نحوهم وهو يشتعل غضبا، ورغم ذلك حكم الوالد رأيه وترك ابنته تساق باكية العينين مكسورة القلب، كذبيحة تساق إلى حتفها، لم يمض يومان إلا وقد عادت تلك الأم بألم أكبر وكتفين متهدلين وظهر منحن، وشباب سرقه الحزن، ومرة أخرى سمعتهم يقولون " ماتت وارتاحت" وعندما سمعت قولهم رسخت في ذهنها قناعة أخرى، أولهما هي مكروهة من الله لذلك يجب عليها العقاب، وثانيهما لا راحة لها إلا الموت.
أكملت سنين حياتها التالية على ذات المنوال، كلما حدث لها شيء سيء، قالت تؤنب نفسها: لا بد لك من عقاب، وكلما حدث لها ما يسر الخاطر كان من وحي الصدفة لا أكثر، فلا جهد تبذله يرضي والدتها، ولا إنجاز تفعله يجعلها تفخر بها وتحن عليها بضمة، رغم أنها لا تبخل بحنانها على بعض أخوتها، ولا يهمها أن تراعي صغيرتها تلك.
قاست الأمرين لكي تصنع ما لم يفعله أخواتها الثلاثة عشر، لكي تصبح محظية والدتها، ومع ذلك ظلت بنظرها تلك الفتاة النحيفة التي لن ينظر لها أحد، والتي تمنت لو أنها لم تنجبها، وطوال الوقت كانت تذكرها بأنها فشلها الأعظم، كانت تصرخ في وجهها ليتني لم أنجبك، ليتك كنت شيئا قميئا ألقيه في المهملات.
درست وسهرت الليالي، وتخرجت الأولى على جامعتها، ورغم ذلك لم تر فخرا في عيني والدتها، تزوجت رغما عنها فقط لتثبت لوالدتها أن هناك من ينظر لها ويريدها، مع أن شكلها كهيكل عظمي، ورغم ذلك لم تر سعادة في عيني والدتها، بل رأت راحة الخلاص لا أكثر، حينما ارتدت ذلك الكفن الأبيض الذي يدعى فستان زفاف، وكأنها أخيرا أزاحت الحمل عن كتفيها، في طريقها نحو قبرها كانت يد سجانها تلمس يدها وهي سارحة بعينين دامعتين، تصرخ بداخلها ما الذي فعلته بنفسك، ولكن سبق السيف العذل، عليها أن تكمل المسرحية، ربما تراها والدتها أخيرا.
لم ترها والدتها، ولم يرها أحد أيضا، كانت كجسد بلا روح، وكأنها شفافة لا ترى، لا أحد يرى سوى تلك البسمة البلهاء الملتصقة على شفتيها، ولا أحد ينظر حقا ليرى الألم المنداح من عينيها، ولا يد تربت على قلبها الكسير، حتى هي لم تترك نفسها دون عقاب، وكأنها ترتاح بجلد ذاتها، تحاول التخلص من حياتها ولا تجرأ على اتخاذ القرار، خوفا من الله وجبنا من نفسها.
وأخيرا استطاعت رؤية الفخر في عينيها أو ربما ليس فخرا، بل ربما ظنت أنه الإنجاز الوحيد الذي يستحق أن تفخر به كجدة، حينما وضعت ابنتها ذات الجمال الأخاذ، حينها فقط أصبحت محظية لديها وإن كان لزمن مؤقت فقط.
حاولت كثيرا الصبر على كل ما تعيشه من ذل لتحافظ على هذه الحظوة، ولكن لم يعد بوسعها الاحتمال أكثر، صلت لربها كثيرا ودعته أن يخلصها مما تحياه، فكرت بإنهاء حياتها مرارا، ولكن وجود تلك الطفلة بين يديها كان عبئا آخر يثقل كاهلها، تناست ونسيت نفسها حتى اعتادت الألم، وصدقت أن هذا ربما قدرها، حتى جاءت تلك اللحظة التي صحى ما بداخلها من وجع ليصرخ بها، وينفجر كل ما عاشته في وجهها كبركان ثائر.
في تلك اللحظة أدركت أن لا أحد يهتم حقا، الجميع يحيا وكل ما يهمه أن يعرف أنها بخير حتى لو لم تكن كذلك، هم فقط يكذبون أعينهم ويجدون راحة كاذبة لضمائرهم غير الموجودة أصلا، في لحظة الإدراك تلك، قررت أن تقلب العالم رأسا على عقب، عليها أن تهتم بنفسها أولا لمرة واحدة في حياتها، عليها أن تضع مصلحتها فوق الجميع كما يفعلون، وحصل ما توقعته، باتت مكروهة من الجميع، فهي جلبت العار لهم بطلبها لحريتها، ورغم أن تلك الأم تحولت فجأة لتصبح أما رؤوما تهمها سعادة ابنتها، إلا أن ذلك لم يدم طويلا، فبذور الغيرة التي زرعتها في قلوب أبناءها أينعت الآن.
أصبحوا يكيدون لها المكائد، يألبون تلك الوالدة التي تنقلب لعدوة بكلمة عليها، يملؤون رأسها بأكاذيبهم مدعين أنهم يريدون راحتها، يقنعونها أن ابنتها طامعة بها وبمالها، وأمامها يتحولون لملائكة بأجنحة لا متناهية، ثارت ثورة الأم وقلبت العالم فوق رأس ابنتها، أصبحت هي وابنتها في قطبي العالم، وخيرتهم دون أن تفصح لهم ولكن أفعالها فعلت، إما أنا أو تلك العاقة، أصبحوا يقفون جميعا ضدها، يلقون كل أخطاء العالم على كتفيها، لكي يكسبوا رضا تلك الأم التي لا يرضيها شيء.
لم تعد تعرف حقا ما الجرم الذي ارتكبته لكي تصبح عدوة العالم كله، وكأنها المدانة الوحيدة والجميع جلادين، ألأنها سعت لحياة أفضل لبناتها؟! أم لأنها تعلمت وأصبح من غير الممكن لها أن تتقبل الذل وتصمت؟! أم لأنها نجحت عكس الجميع وهي فتاة وليست ولدا؟! لقد أصبحت عارا لهم بدل أن تكون فخرهم.
في كثير من الأحيان تتذكر زيارة عمتها رحمها الله، تلك العمة التي وصفت زيارتها لأختها وهي على فراش الموت، وقولها أن أختها أخبرتها بالإشارة أن زوجها من وضع رأسها داخل وعاء السم، بداخلها هي موقنة أنها ليست سوى محض خيال، هي تعرف أن أختها استسلمت لضعفها، وتركت خلفها خمسة أرواح لتحترق بجحيم والدهم، اختارت نفسها عليهم، ولكنها ليست بهذا الضعف، لم ولن تفعل ذلك يوما، رحلت عن عالمهم القميء، وتركت لهم الجمل بما حمل، فضلت صنع حياة كالحياة لفلذات أكبادها، بدلا من إعادة التاريخ مرة أخرى.
يوما بعد يوم كانت تتأكد أن الأمهات الجيدات لا تنشئهن الأمهات الجيدات فقط، بل السيئات أيضا هم خير من أنشأهن، وربما يكون هذا هو إنجازهن الوحيد، فكل من قاسى الألم يتمنى ألا يقاسيه فلذات أكباده، يعوضهم بحضن كان هو يتمناه، وقُبل لطالما حلم بها، بدمية لم يحصل عليها يوما، ولحظات سعادة لم ولن يحظ بها، يصنع لهم ذكريات ترسم البسمة على أرواحهم قبل شفاههم، ويدخلهم مدارس لم يكن بالإمكان له أن يدرس بها، يمنحهم كل ما حرم منه لكي لا يأتي يوم وتسمعهم يقولون ليت والدتي فعلت ذلك.
صحيح أنها في كثير من الأحيان شعرت بالتعب يجتاح كيانها، كانت تتمنى فقط الاستسلام، سقطت أرضا مرات عديدة وتركت تيار الدموع ليجرف ألمها بعيدا، تمنت لو تأخذ إجازة لبضعة أيام من هذه المسؤولية، ولكن في تلك اللحظة التي تحتضنهن بها كانت تنسى كل شيء، كان يكفيها تسابقهن لدفء حضنها، قبلهن التي يغرقنها بها، وتلك الضحكات التي تنساب من شفاههن لحظة مداعبتها لهن، كل شيء يهون أمام لحظات السعادة تلك.
تنبهت من شرودها الذي جعل دمعاتها تنثال دون أن تشعر لتغرق وجنتيها، على يد ابنتها التي امتدت لتمسحها وهي تقول: لماذا تبكين؟ ونظرات تساؤل وقلق تعلو عينيها الجميلتين، مسحت دموعها واحتضنتها وهي تبرر دموعها بغبار داهم عينيها، ثم نهضت ترسم بسمة عزاء على وجهها، فقد عوضها الله بهن، واليوم سيحتفلن بأول معرض فني لابنتها الكبرى، أرسلت ابتسامة وداع لكل ذكرياتها المؤلمة، فهي الآن ستعيش حاضرها المشرق الذي صنعته بنفسها، حاضرها الذي استحق كل لحظة ألم خاضتها لتصله.
لقد أدركت متأخرة جدا، أن كل لحظة ألم كابدتها كانت ظاهرها العذاب وفي باطنها تكمن الرحمة، لقد حققت ما لم ولن يحققه أحد من أهلها، بات اسمها علما في عالم الطب، لها إنجازات يشهد بها العالم أجمع، وما ضيرها إن كانت عارا لهم وهي فخر لكل العالم، بل ما ضيرها إن كانت عارا لهم وهي فخر لبناتها، يرفعن رؤوسهن عاليا وهن يشرن لها ويقلن هذه أمي، هذه من ربتنا، هذه فقط من يحق لها أن تفخر بنا.
تمت